تُعدّ الجماعات الترابية في المغرب إحدى اللبنات الأساسية في الهيكلة الإدارية والتنموية للدولة، وقد خضعت لإصلاحات متوالية خلال العقود الأخيرة، خاصة منذ صدور دستور 2011، الذي أرسى مبدأ الجهوية المتقدمة كخيار استراتيجي لتعزيز الديمقراطية المحلية وتحقيق التنمية المستدامة.
وتضم هذه الجماعات ثلاثة مستويات: الجهات، والعمالات أو الأقاليم، ثم الجماعات (الحضرية والقروية)، وهي مكلفة بتدبير الشأن المحلي في حدود اختصاصاتها الذاتية والمشتركة والمنقولة، بما يشمل التخطيط العمراني، والبنيات التحتية، والخدمات الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية.
بحكم القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية، تُعتبر هذه المؤسسات فاعلا أساسيا في بلورة السياسات العمومية الترابية، وتمكين المواطنين من المشاركة في اتخاذ القرار التنموي، غير أن الأداء الفعلي على الأرض يثير العديد من التساؤلات حول مدى قدرتها على تحقيق الأهداف المرسومة.
في هذا السياق أوضح استاذ العلوم السياسية، عبد الغني السرار، أن “هندسة التنمية الترابية لم تعد وظيفة حصرية للدولة المركزية، بل صارت تتوزع بين ثلاثة محركات متداخلة: الدولة باعتبارها الفاعل المركزي، الجماعات الترابية بوصفها مؤسسات تدبيرية منتخبة، ثم المجتمع المدني الذي تحول إلى شريك استراتيجي يضطلع بدور مراقب ومقترح ومساهم فعلي في بناء القرار العمومي”.
واضاف السرار في مقال تحليلي توصلت به جريدة “”، أنه رغم هذا التنظير، فإن الواقع ما زال يشكو من هشاشة حقيقية على مستوى التنزيل العملي لمقتضيات الدستور المغربي لسنة 2011، الذي أرسى دعائم الجهوية المتقدمة والديمقراطية التشاركية”.
وأشار إلى أن ما نلاحظه اليوم هو أن أغلب الجماعات الترابية، خاصة القاعدية منها والمتواجدة في المناطق النائية، تعاني اختلالات مالية عميقة تُفرغ اختصاصاتها التنموية من أي مضمون فعلي، إذ تعتمد بنسبة تقارب 40% من ميزانياتها على تحويلات الدولة، وعلى رأسها حصة الضريبة على القيمة المضافة، في حين تبقى مواردها الذاتية ضعيفة وعرضة لمشاكل تحصيل معقدة. أضف إلى ذلك القيود الصارمة المرتبطة بالولوج إلى تمويلات صندوق التجهيز الجماعي، مما يحول دون إنجاز عدد كبير من البرامج والمشاريع.
ولفت إلى أن المجتمع المدني من جهة ثانية، ما يزال يعاني من ضعف إشراكه المؤسسي في بلورة السياسات العمومية رغم ما ينص عليه الدستور والقوانين التنظيمية، إما بسبب هيمنة المقاربة الشكلية لدى السلطات العمومية، أو بسبب ضعف قدرته التقريرية نتيجة الهشاشة المالية والتنظيمية التي يعاني منها في عدد من الجهات.
وشدد على أنه رغم وجود أطر قانونية مهمة مثل القانون التنظيمي للعرائض والملتمسات، فإن التفعيل لا يزال متأخرا، وهو ما يؤشر إلى وجود فجوة بين النص الدستوري والممارسة الميدانية.”
وأكد أستاذ العلوم السياسية، أن الحديث عن دولة مواطنة ديمقراطية لا يمكن أن يتحقق دون تجاوز منطق المركزية المفرطة، وتوسيع نطاق السلطة التقريرية للجماعات الترابية، وضمان تمويل مستدام لها، إلى جانب توسيع دائرة إشراك المجتمع المدني في التوجيه العمومي، بما يحول التنمية من مشروع فوقي إلى عملية مجتمعية مندمجة تنبني على التشاركية، الشفافية والعدالة المجالية.
“وأمام تآكل فعالية النموذج التقليدي للبيروقراطية وازدياد الفجوة بين الدولة والمواطن”، يرى السرار أنه بات من الضروري إعادة النظر في هندسة التنمية الترابية وفق منطق تشاركي لا متمركز يعيد الاعتبار للفاعل المحلي والمجتمع المدني كركيزتين أساسيتين في صناعة القرار الترابي”.
وأضاف “فاليوم، نعيش مرحلة انتقالية حقيقية في مفهوم الخدمة العمومية، التي لم تعد تقوم فقط على منطق الأداء الإداري بل باتت تُقاس بمدى الإنصاف، النجاعة، وتلاؤمها مع التفاوتات المجالية المتزايدة.”
المصدر: العمق المغربي