اخبار المغرب

الجسد بين القناع والعري

لا بد من تركيز التفكير باستمرار حول ينابيع حقيقة الجسد والإشكالات المنطوية عليها، ليس بناء على نمطية مقارباته الاستهلاكية والفجة المرتبطة بيسر الحاجة المادية المباشرة اللاهثة خلف مردودية دورات الإنتاج؛ لكن وفق منظور محض وجودي يرتقي بالوعي أساسا وجهة مركزية الثالوث المقدس: الولادة، التقنُّع، الموت.

هنا، مكمن سياق تأويلي، الذي أتوخاه حقا متسائلا ضمن بوتقة التفكير تلك بخصوص مدى القدرة على استيعاب تحولات المصير الإنساني بين لحظة ولادته، ثم لعبة التستُّر بلبنات الوجود/ الذاكرة، وأخيرا واقعة الموت.

نفهم ضمن محددات هذا المنظور أبعاد الجسد الجدير بالإنسان كإنسان، إلى جانب مختلف الممكنات الأخرى التي تشكِّل ماهية كيفية اختباره لتجربة الحياة؟ أساسها نجاحه أو إخفاقه، بعد كل شيء، في الإبقاء على شفافية حسه ووعيه الوجوديين قياسا للأقنعة المتوفرة. يتجلى أفق معطى الجسد، الذي يرسم معالم هوية الإنسان.

طبعا هي خبايا تحولات لا متناهية، تبلغ قمة الإلغاز والإبهام، بالكاد قد يطمئن تعريف معين وضع الإنسان عند تحديدات إطار معين، حتى يقوِّضه احتمال ثان، مشرئِبّا نحو غيره.

يسري التصور نفسه على حمولة الجسد، عبر أغوار السؤال المشروع للماهية والجوهر: ما الجسد؟ الكتلة المادية التي تمنح الكائن حضورا ملموسا في العالم؟ أم يتضمن مجمل دلالات وجهي التبلور الإنساني؛ بمعنى يعكس الجسد، في نهاية المطاف، الحقيقة الإنسانية متكاملة، فوق كل اعتبارات التقسيم المألوف بين الجسد والروح، وارتباط الأول بشتى إحالات النَّاسوت والمدنَّس، بينما ينطوي الثاني أي الروح على اللاهوت والمقدس.

هكذا، يشير ملفوظ الجسد بكيفية لا واعية إلى تضييع فرصة المكوث الخالد في فردوس النعيم، ثم السقوط المدوي صوب هاوية الأرض لاجترار مصير عبثي، تحت اعتباطية جلِّ مبررات الجحيم، بينما يرنو مصير الماسكين بتلابيب الروح نحو النجاة من براثن الجسد.

عموما، قد يبقى الجسد حمولة يستحيل الإحاطة بدلالتها؛ غير أنَّ اللاوعي البشري، يستحضر غالبا فور ذكر إحالة من هذا القبيل، كل معاني: الدنيوي، اليومي، اللحظي، الغرائزي، إلخ. في حين تصبُّ المعطيات المناقضة لهذا الاتجاه نحو أفق آخر قد يكون أيَّ شيء، إلا الجسد.

ما معنى الولادة؟ نكون بلا ريب محض أجساد، أو الوجود فقط في الجسد.

ما معنى العيش مع الآخر؟ إنه تدبير هذا الحيز بين الجسد/الولادة، ثم الجسد/القناع، فسياق المجتمع مجرد صناعة غير متناهية لتشكيل نسيج الأقنعة، ما دمنا نولد، ثم نتقنَّع في نهاية المطاف؛ اختيارا أو إكراها.

إذن، عند التفكير في لعبة القناع، كمرحلة لتجليات الحياة، التي تغتال جسد الولادة باعتباره جسدا خالصا، شفافا، مماثلا تماما لهويته المبدئية، ثم الحياة بأقنعتها حيث ضياع الجسد وسط متاهة غير سبيل تعاليه عن كل المواضعات الوهمية، وأخيرا الاصطدام بالموت، وقد حضر الجسد ثانية بكل هالته وحضوره المطلق. يمكننا، حينئذ، الإمساك بحيز آخر للجسد، ينتشله على الأقل ظرفيا، من التصنيفات المشينة باعتباره حصيلة أوصاف لمختلف ممكنات العالم السفلي، بالتالي تظل قابلية تجلياته عند محدِّدات إطار مبتذل.

يمكن الجزم بأنَّ ماهية الجسد تتحقق بالمطلق لحظتي الولادة والموت، بينما تعكس مجريات الحياة سلسلة أقنعة يتوارى خلفها الجسد، يستلهمها اصطناعا، تستنزفه دون رحمة.

الجسد بلا قناع جوهره ثلاث حقائق هي: الصراخ، الصمت، العري. لذلك بوسعنا استخلاص الكوجيطو التالي: يماثل الإنسان جسده، يتماهى معه لحظات صراخه صمته أو تعريه. غير هذا، يمضي بغير تردد نحو الإخفاء والتقنُّع. أقصى تجليات الشفافية والفهم والعمق وكذا استعادة لحظة البدايات.

يعيد الإنسان باستمرار بعث مصيره ثانية والتفكير في مآله حين الصراخ، أو الصمت وكذا تمثُّل جسده عاريا. اكتشاف للذات، مع الذات، تلك اللحظات المفصلية في الحياة، رغم كل ما تكتسيه الأخيرة من مظاهر مخادعة؛ أهمها عندما يخسر الجسد هويته، أي كونه متجرِّدا بامتياز.

الصرخة: استعادة لحقيقة الولادة.

الصمت: استشراف للموت.

العري: استعادة لهما معا، ما قبل الولادة. ما بعد الموت.

أنا جسدي يعني قدرتي على إتقان لغتي الصراخ والصمت ضمن إطارهما الوجودي الخالص، ثم كوني عاريا شفَّافا، كسوتي التي يليق بي هيكل جسدي، حقيقتي أولا وأخيرا، أنتصر بفضله على التِّيه والزيف والنمطية والتنبؤ والخضوع والاستعباد، أي التصدي لكل ما بوسعه المسَّ بإنسانيتي.

بناء على المتواليات السابقة التي ترسِّخ ربط الجسد بقناع كبير، تلتئم داخله جملة مواضعات تنزاح بالجسد بعيدا عن أصالته، ونواة ارتباطه بالمصير الوجودي لصاحبه، ستبرز بوضوح خيوط المعادلة التالية:

كلما ازداد الاحتفال بالجسد، يعني بلغة أخرى الابتعاد عن مضمار الموت، إلا وتضاءل في المقابل السؤال الوجودي لدى الشخص، والعكس صحيح، كلما ابتعد الجسد عن بريق الزيف والاستعراضي المصطنع، اقترب الشخص نفسه من وضعه الأصلي واستشرف بعمق مصيره.

الجسد ضمن محددات وازعه البيولوجي، ليس بتبلور فعلي لهوية الجسد، وقصة مآسي الحياة؛ بمعنى العالم تبعا لمفهومه المباشر، مصدرها محرِّضات بيولوجيا حمقاء، اختزلت الجسد إلى مجرد كتلة تفاعلات آلية قوامها عمليتي الإثارة والاستجابة، أو لعبة مجتمعية استعراضية تتقلَّب صورتها حسب تقلُّب جغرافية مزاج أهل السلطة في المجتمع، والقابضين على موجهات الذوق العام، تبعا لتطورات السياقات، مثلما تكشف عن ذلك بوضوح تحولات معايير الجمال، الموضة، التقويم الفيزيائي، الصحة، المرض، القوة، الضعف، والحبور، الفتور…

يغدو الجسد، في خضم نزوعات التشيؤ تلك، مرتعا تافها لمضاربات غائية، أداتية لا غير، ظرفية تراهن على العابر والفوري، كلما تعمقت مثلما الشأن خلال الزمن المعاصر تهاوت من ناحية أخرى قيمة الإنسان كإنسان؛ أي جسد بغير أقنعة، وافتقد درب حقيقته، وأضاع منظوراته البنَّاءة، التي يستعيد معها مصير ولادته، جسده، موته.

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *