تظهر الدراسات المنجزة خلال العشر سنوات الماضية حول تطور ثروة الأمم أن هذه الثروة تتكون ليس فقط من رأس المال الطبيعي ورأس المال المنتج؛ بل كذلك وخاصة من رأس المال غير المادي بمكوناته الأربعة: رأس المال البشري والاجتماعي والثقافي والمؤسسي. كما أثبتت هذه الدراسات أن حصة رأس المال غير المادي ترفع من الحصة الإجمالية للدول ونموها وتطورها. هكذا، ففي بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يمثل رأس المال غير المادي في المتوسط أكثر من 80 في المائة من ثروة البلدان الأعضاء في هذه المنظمة. وفي البلدان ذات الدخل المتوسط، تتراوح هذه الحصة بين 50 في المائة و70 في المائة.
أما بالنسبة للمغرب، ووفقا للدراسة التي أعدها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في دجنبر 2016، بشراكة مع بنك المغرب، بناء على طلب من جلالة الملك محمد السادس في 30 يوليوز 2014، تضاعفت قيمة الثروة الإجمالية لبلدنا بالأسعار الجارية أكثر من مرتين في الفترة الممتدة بين 1999 و2013، وهي الفترة المرجعية للدراسة. ولقد ارتفعت هذه القيمة من 5.904 مليارات درهم إلى 12.833 مليار درهم، بمعدل سنوي قدره 5 في المائة خلال هذه الفترة. ويكمن العامل الرئيسي لهذا النمو للثروة الوطنية في أهمية ومكانة رأس المال غير المادي الذي تقدر نسبتها حسب الدراسة بـ72،6 في المائة من إجمالي الثروة المنتجة. في حين يمثل رأس المال المنتج ورأس المال الطبيعي 24,1 في المائة و7,3 في المائة، على التوالي.
وبعبارة أخرى، فإن البلد الغني اليوم هو الذي يتميز بالقدرة على الاستثمار بشكل أكبر وأفضل في رأس ماله غير المادي وبصفة خاصة في رأس ماله الثقافي.
وفضلا عن هذا الدور الذي تلعبه الثقافة في خلق الثروة الوطنية، فإن أهميتها التاريخية تتجلى في تكوين وصقل الهوية وتقوية الوحدة الوطنية، وهي بذلك توجد في صلب الحضارة المغربية التي من مميزاتها العراقة والغنى والتنوع، وهي جميعها مقومات تساعد بكثير على معرفة ما معنى أن تكون مغربيا اليوم؛ ذلك أن المضمون الحضاري لما أصبح يصطلح عليه اليوم بـ”تمغربيت” يتشكل من مجموعة من القيم تعزز الرابط الاجتماعي والعيش المشترك، بما في ذلك التراث المادي وغير المادي الذي تزخر به بلادنا، وأشكال التعبيرات الفردية والجماعية عن الوجود والوجدان والانتماء إلى الوطن، وأنماط تلبية الحاجيات الاجتماعية اليومية في مختلف مناحيها، وكذا الحقوق والواجبات والسلوكات والبنيات والمؤسسات التي تهيكل المجتمع، بعضها مكتوب وبعضها غير مكتوب، بعضها مدون في الدستور وبعضها وليد لأعراف وتقاليد موروثة ما زالت حية، أفرزتها التنشئة الاجتماعية المغربية على مراحل منذ قرون.
فكل هذه العناصر والعوامل مجتمعة لها علاقة مباشرة وتأثير على مستوى، ونوع ومغزى التنمية في مغرب اليوم بصفة عامة وفي إدماج الشباب عبر الثقافة بصفة خاصة.
ولمعالجة هذه الإشكالية، فإن بلادنا لا تنطلق من لا شيء؛ بل راكمت مجموعة من الدراسات والأبحاث والتقارير على رأسها تقارير ودراسات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي التي ساهمت في بلورتها كل الفعاليات والقوى الحية المكونة لهذه المؤسسة الدستورية المستقلة، وهي على وجه الخصوص: الميثاق الاجتماعي الجديد، وإدماج الشباب من خلال الثقافة، والنموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، والدراسة حول اقتصاد الثقافة، ثم التقرير حول الثروة الإجمالية للمغرب ودور الرأسمال غير المادي.
انطلاقا من استثمار هذه التقارير والدراسات، يظهر أن الثقافة لعبت، خلال مختلف الحقب التاريخية من مساره التنموي، دورا حاسما؛ إما في إنجاح أو تعثر أو فشل الإصلاحات التي أقدم عليها المغرب. وما زالت هذه الإشكالية مطروحة حتى اليوم بحدة؛ ذلك لأن هذه الإشكالية تطرح علينا خمسة تساؤلات جوهرية لصيقة بالانتقالات الرئيسية وبالتحديات المرتبطة بها والتي تواجهها بلادنا حاليا:
السؤال الأول: ماذا تعني الثقافة اليوم لشبابنا في علاقتها بالتنمية؟
السؤال الثاني: هل الثقافة هي كل ما يعطي معنى للوجود وللهوية وللحياة الاجتماعية اليومية؟ وبالتالي ما هو مصدرها؟ هل الدين أم الأخلاق أم الفلسفة أم العلم أم التكنولوجيا المتمثلة في العالم الرقمي والذكاء الاصطناعي؟ أم هي مجموعة من القيم التي تهيكل وتنظم الحياة الاجتماعية اليومية للأفراد والجماعات؟ وفي هذه الحالة هل مصدرها هو المؤسسات التي تنتج القيم وعلى رأسها الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية والتقنيات الحديثة للاتصال والمنظمات المدنية بجميع أنواعها المدنية الصرفة أو الحزبية أو النقابية أو المقاولاتية؟ أم أن الثقافة هي مجموعة من القوانين والنظم التي تحدد بموجبها القواعد والضوابط التي تدبر سلوكات الأفراد والجماعات، وبالتالي هل مصدرها هي القوانين والمواثيق والدساتير؟
السؤال الثالث: هو من ينتج الثقافة اليوم؟ هل الدولة، أم المجتمع أم فاعلون آخرون خارج الدولة والمجتمع؟
السؤال الرابع: كيف تؤثر الثقافة على حياة الأفراد والجماعات؟ وما وقع هذا على تنمية قدراتهم، وبالتالي على العملية التنموية برمتها؟
السؤال الخامس والأخير، إذا افترضنا أن التنمية في مفهومها الشامل تتجلى في التراكمات التي يحققها مجتمع معين في مرحلة معينة من تاريخه في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية والحقوقية وفي التعبيرات الثقافية والحضارية لهذه التراكمات، فما هي أشكال التعبير عنها؟ هل تتجلى هذه الأشكال في الدين واللغة وفي طرق الغذاء واللباس والمعمار، وفي الإبداع الموسيقي والشعري والأدبي والفلسفي والسينمائي والمسرحي والتشكيلي والعلمي والتكنولوجي، وفي أنماط الإنتاج والتبادل وفي طرق تدبير الأحوال الشخصية؛ بما في ذلك تدبير الاختلاف والزواج والطلاق والإرث والفرح والقلق وحتى الموت.
وهي جميعها جوانب مهمة تحدد مستوى ونوع ومعنى التنمية الثقافية في مجتمعنا.
فهذه الأسئلة كلها والإجابة عنها تضفي على إشكالية إدماج الشباب عبر الثقافة طابعا مركزيا.
من هنا، تتجلى الأهمية القصوى للسياسات العمومية لإدماج الشباب عن طريق الثقافة مركزيا وترابيا، خاصة في ظل التغيرات التي تشهدها بلادنا بوتيرة متسارعة على الصعيد الديموغرافي والاجتماعي والاقتصادي والمؤسسي والثقافي والمناخي والعسكري والأمني والجيواستراتيجي داخل عالم مليء بالمخاطر ومحفوف بالتحديات.
* نص الكلمة في افتتاح الملتقى الجهوي الثاني حول “إدماج شباب جهة الدار البيضاءسطات عبر الثقافة”.
المصدر: هسبريس