التوزاني يطل على زخم الذخيرة الأدبية حول مناسبة “عيد العرش” في المغرب
تطرّق خالد التوزاني، أستاذ باحث في الأدب والنقد والتصوف والجماليات، ورئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي، إلى موضوع عيد العرش من الزاوية الأدبية، وأجرى، في مقال له، إطلالة على الذخيرة الشعرية الكبيرة التي تراكمت حول الموضوع، وأصبحت أهميتها الأدبية والفكرية تفرض نفسها على الدارس، كي يتناولها بالبحث العلمي والنقدي الموضوعيين، اللذين يبرزان قيمة هذه الذخيرة في تاريخ الأدب المغربي الحديث.
هذا نص المقال:
يأتي هذا المقال بمناسبة الاحتفال بالذكرى الرابعة والعشرين لتربع صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله وأيده، على عرش أسلافه المنعمين.
قد يظن الكثيرون أن السياق الذي دعا إلى الاحتفال بعيد العرش في المغرب قد جاءت تنفيذا لظهير شريف أو بلاغ للديوان الملكي يدعو المغاربة إلى تخليد الذكرى والاحتفال بها، لكن الواقع أن هذه الدعوة جاءت أول مرة من الشعب المغربي وصدرت بعفوية وتلقائية لتدل على صدق المحبة التي يكنها المغاربة لملوكهم، ولتعبر عن الالتحام الذي جمع الشعب بالعرش؛ فمن المعلوم أن فكرة تنظيم هذه الحفلات كانت بمبادرة من رجال الحركة الوطنية، الذين دعوا إلى ذلك سنة 1933م، قبل صدور قرار بتنظيم هذا الاحتفال الوطني الشعبي بصفة رسمية في السنة الموالية (1934م).
يقول عبد الله كنون في كتابه أحاديث عن الأدب المغربي إن “عيد العرش كان في الأول مظاهرة وطنية، ثم صار بعد ذلك موسماً أدبياً تنجز فيه أعمال أدبية رائعة؛ فمن مقالات في تاريخ الدولة المغربية وعظمة العرش المغربي إلى خطب في تمجيد الوطنية وجمع المواطنين على خدمة الأهداف المقدسة التي ترمي إليها إلى قصائد في مدح الجالس على العرش، والتنويه بمشاريعه الإصلاحية، لاسيما في التعليم والنهوض بالفتاة المغربية وإنعاش الاقتصاد المغربي”.
وهكذا تراكمت خلال هذه المدة ذخيرة شعرية كبيرة، أصبحت أهميتها الأدبية والفكرية تفرض نفسها على الدارس، كي يتناولها بالبحث العلمي والنقدي الموضوعيين، اللذين يبرزان قيمة هذه الذخيرة في تاريخ الأدب المغربي الحديث، وهذا ما سنحاول القيام به في هذه الإطلالة السريعة والمقتضبة، التي من شأنها أن تلفت انتباه الباحثين إلى أهمية وضرورة دراسة هذا الشعر.
يمثل الشعر المغربي الذي قيل في المناسبات الوطنية غرضا شعريا من أغراض الشعر المغربي، له خصوصياته وسماته وأعلامه، معظمه مغمور في بطون الدواوين الشعرية وتراجم الشعراء والجرائد والمجلات المغربية، فقد كانت مناسبة عيد العرش وغيرها من المناسبات الوطنية وراء ديوان حافل بالأشعار الوطنية، وهو ما يفسر كثرة القصائد في هذا المجال، حتى أطلق عليها بعض الباحثين: فن العرشيات ، أو “العرشيات”، حيث تفنن الشعراء المغاربة في التعبير عن حبهم للملك ووصف أجواء الفرح بالعيد الوطني السعيد.
هكذا، يُعدّ الشعر الوطني مصدرا خصبا من مصادر تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، ومرآةً صادقة لصور الالتحام بين الشعب والعرش، فهذا الغرض الشعري يجسد أصلا من أصول الوطنية المغربية، كما يؤدي وظيفتين: الأولى توثيقية باعتباره وثيقة تاريخية تكشف عن تجليات الوطنية، والوظيفة الثانية أدبية إبداعية تتجلى في كونه مثّل غرضا شعريا له جمالياته ووظائفه وأبعاده.
لقد بلغ اهتمام الشعراء بمناسبة عيد العرش المجيد درجة أن الشاعر “إن لم يقل شعرا طوال العام لا بد أن يقوله بهذه المناسبة.. وهكذا انقلب الشعر إلى شعر وطني واجتماعي يعبر عن عاطفة شعبية، ويمارس تجربته الأدباء أصحاب المبادئ الوطنية. وكان مما يتضمنه هذا الشعر الإشادة بمواقف الملك من النهضة وتشجيع الحركة الوطنية، ووصف ما قطعه المغرب في أيامه من مراحل نحو التقدم والازدهار في جميع الميادين، وبذلك يكون هذا النمط الشعري سجلا من سجلات التاريخ الوطني والنهضة الحديثة، لاسيما وقد كان طابع هذا الشعر الصدق الذي تتفاعل فيه العواطف مع الواقع، فيجسد التأثير الذي تحدثه مبادرات الملك وأعماله في نفوس الأفراد والجماعات من مختلف طبقات الشعب بدون أن يكون مغاليا في ذلك ولا مجاملا، كما هو المعهود في أمداح الملوك وشعر المناسبات”. ويتجلى ذلك في هذا النموذج الذي اخترناه من عرشيات الشاعر محمد الحلوي:
هناك أقام المجد شامخ مجده وثَمّ تناهى العزّ وانتظم الفخر
هناك على العرش المصون جنابَه تجلّى الهمام الشّهم والملك البَرّ
سليل الملوك الفاتحين تحية من الملإ الأعلى يُرتلها الشعر
أبا النصر تمم ما ابتنيت فما بقى لفوزك إلا قاب قوسين أو شبر
نحقق أماني أمة ضاق ذرعها وأرهقها الحامي وأثقلها الإصر
تريد حياة تحت تاجك حرة وتطلب حقا ليس عن نيله صبر
ستبدل في آمالها كل ما احتوت يداها فإن عزت فأرواحها مهر
فقدها إلى الشط الأمين سفينة تقاذفها في سيرها المد والجزر
هنيئا لك العيد الذي أنت عيده تحف بك الأشبال والأنجم والزهر
ولا يخفى ما في هذه القصيدة من معاني الفخر والتهنئة بالعيد والتعبير عن قضايا الوطن.
عرفت قصائد العرشيات في عهد الاستقلال قفزة مهمة، فقد اتسع أفق القول عند الشعراء، وأصبحت دواعي التسابق إلى المشاركة في هذه المحافل الأدبية كثيرة، خاصة أن مجالات إلقاء وإسماع هذه القصائد أصبحت متنوعة ومتعددة، إذ لم تعد مقتصرة على التجمعات الشعبية المحدودة التي كانت تقام في أماكن ضيقة، خاضعة للحصول على ترخيص خاص من سلطات الحماية، بل صارت هذه الاحتفالات تقام في كل حي، وصارت التظاهرات الثقافية، المواكبة والموازية لهذه الاحتفالات الشعبية، تقام في مختلف الأندية، وفي المؤسسات التعليمية، وصارت وسائل الإعلام المختلفة من إذاعة وتلفزة وصحف ومجلات تتنافس وتتسابق في جلب الشعراء وتقديم قصائدهم على قنواتها وأمواجها وصفحاتها.
إن إحياء ذكرى عيد العرش أصبح بعد الاستقلال مقترنا بخطاب العرش الذي يقدم فيه جلالة الملك حصيلة العمل الحكومي في مجالات التنمية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية خلال السنة السابقة، ويعطي فيه تعليماته لحكومته حول ما يجب أن تعطيه الأولوية في برامجها التنموية خلال السنة المقبلة، إضافة إلى أن خطاب العرش يخصص عادة حيزا مهما للحديث عن القضايا الوطنية والعربية والإسلامية والدولية التي يضطلع فيها ملك المغرب بدور مهم. وهذه الظروف الجديدة فتحت أمام الشعراء آفاقا رحبة للتعبير عن وطنيتهم الصادقة، وليتسابقوا إلى الإشادة بالخطوات التي يقطعها المغرب في العهد الجديد، عهد الحرية والاستقلال، عهد البناء والتشييد، عهد التخطيط لمغرب يسعى إلى الاندماج في مسيرة التنمية وفي مختلف الواجهات، بالقدر الذي يسعى فيه إلى استكمال تحرير باقي الأجزاء التي بقيت تحت الاستعمار الإسباني، سواء في جنوب الوطن أو في شماله.
يقول الشاعر “محمد معمري الزواوي” في قصيدة عرشية اقترن فيها إحياء ذكرى عيد العرش المجيد بحلول عيد الفطر السعيد:
سعدنا بعيد العرش للحسن الثاني وبعده عيد الفطر موسوم غفران
هنيئا أمير المؤمنين بفاله ال ـمبشر يمنا أن تواصل عيدان
كذلك يفيض اليسر إثر جهودك ال ـعظيمة تزهي كل صقع وميدان
صعدت على عرش الجلال موطأ يقينك في الرحمن أكمل إيمان
فتحت بخير عهد زهو ونعمة بتدعيم أس اليمن أوثق أركان
جمعت بأعراس السعادة أسرة ونسقتها نظما قلادة عقبان
وزينت ذاك الحفل في جمع أمة حواليك يدني لبها خير إحسان
فأسديت للشعب الوفي براهن اعـ ـتنائك تزهيه عواطف تحنان
ولما فشا داء البطالة أينعت عنايتك الجلى بأنفع إعلان
وتستمر القصيدة في تعداد منجزات جلالة الملك في التعليم والفلاحة والاقتصاد، وفي إنشاء المرافق الاجتماعية والصحية والدينية، وإصلاح القضاء، وغير ذلك من المنجزات التي تسعى إلى تحقيق النمو والتقدم للمواطنين.
ولم يكن الشاعر “الجزائري مفدي زكريا” يتخلف قط عن المشاركة في تخليد ذكرى عيد العرش المجيد بقصائده الطويلة والبليغة، التي نستحضر منها هذا النموذج:
لمن السواجع ينطقن هديلا؟ والروض، وضاح السمات، بليلا؟
ولم البراعم يرتعشن، وقد سرى فيهن مسحور النسيم عليلا؟
ولم الحناجر بالبشائر لعلعت؟ فتصاعدت نغماتها تهليلا؟
ولم البلاد ازينت وتبرجت؟ وتناهلت كأس الهنا معلولا؟
الأجل عيد الشعب…صغت نجومها آذار، فوق جبينها إكليلا؟
ملك الشباب… وللشباب مطامح حققت منها الأرشد المعقولا
سقت الشراع على الخضم بحكمة فمضى شراعك كالشعاع ذلولا
ورفعت شعبك فوق تاجك عزة فغدوت فيه الرافع المحمولا
ومن أشهر قصائد العرشيات نونية “عشق وجهاد وبشرى” للشاعر محمد بن محمد العلمي، حيث جاءت في 214 بيتا، افتتحها بقوله :
بالمغرب الأقصى يهيم جناني وأراه في الأعماق يراني
حسناته تترى مع (الحسن) الذي بالفكر والخلق العظيم سباني
تأتي القوافي في الثناء مطيعة سباقة، فواحة الأردان
ولسان حالي ترجمان خواطري والعشق مفتضح مع الكتمان
للشمس بالقمر المنير علاقة وثقى وسر النور في الدوران
في عيد عرشك يا مليكي إنني شحرورك الصداح في البستان
فالقصيدة أشبه ما تكون بملحمة حافلة بمشاهد البطولة المغربية بقيادة جلالة الملك باني المغرب الحسن الثاني طيب الله ثراه.
إن الشعراء الذين شاركوا في صنع ديوان “العرشيات” يعدون بالمئات، لكن الذي يجب التذكير به أن عيد العرش لم يكن المناسبة الوطنية الوحيدة التي ينتهزها الشعراء للتعبير عن مشاعرهم الجياشة نحو ملك البلاد. بل تعد مختلف المناسبات الدينية والوطنية الأخرى مجالات رحبة للتعبير عن هذه الأحاسيس الفياضة، فهي كلها فرص لا يدعها الشعراء تمر دون تخليدها في قصائدهم الشعرية، مقدمين بهذه المناسبات أصدق التهاني وأجملها إلى صاحب الجلالة، ومبرزين جهوده المتواصلة في تحقيق المزيد من الإنجازات؛ ولذلك ينبغي الاهتمام بالأدب المغربي لما يحققه من تربية للناشئة على معاني الوطنية، ولما يؤديه من دور في رفع منسوب الحماس الوطني الذي يجعل كل مغربي أينما كان وحيثما وُجد لا يتردد في التعبير عن فخر انتمائه للمغرب.
وخلاصة القول إن الاحتفال بالذكرى الرابعة والعشرين لتربع صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله وأيده، على عرش أسلافه المنعمين، يمثل فرصة نستحضر فيها منجزات جلالة الملك محمد السادس، الذي في عهده الذهبي عرف المغرب تطوراً شهد به البعيد قبل القريب، بل وحظي بإعجاب الأعداء والخصوم، وخاصة تلك المكتسبات التي بدت واضحة للعيان في مجالات التنمية بكل أنواعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي كان لها وقع طيب على حياة المغاربة داخل الوطن وخارجه. وقد حفل الأدب المغربي بتجليات هذا العهد الذهبي الزاهر، سواء في الشعر أو القصة أو الرواية والمسرح، وغير ذلك من مجالات هذا الأدب.
أخيراً، أستغل هذه المناسبة الوطنية السعيدة لأبارك لجلالة الملك والأسرة العلوية الشريفة والشعب المغربي قاطبة هذه الذكرى الغالية، مجدّداً فروض الطاعة والولاء لصاحب الجلالة الملك محمد السادس أدام الله نصره وتأييده، سائلا العليّ القدير أن يعيد عليه هذا العيد بموفور الصحة والهناء، ويقر عين جلالته بصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير المحبوب مولاي الحسن وبصاحبة السمو الملكي الأميرة للا خديجة، ويشد أزره بصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، وبسائر أفراد الأسرة الملكية الشريفة، وأن يحقق على يديه الكريمتين ما يرجوه لشعبه الأبي من عز ومجد وتمكين. إنه سميع مجيب.
المصدر: هسبريس