لم يتأخر التفاعل الترابي مع التوجه الجديد الوارد في الخطاب الملكي بمناسبة “عيد العرش 2025″، المرتكز على مبدأ العدالة المجالية وردم هوّة الفوارق بين الجهات والأقاليم، بإطلاق “دينامية فورية” وجارية تسارعت خلال الأيام الراهنة على مستوى الإدارة الترابية، تمثلت في تنصيب مسؤولين جدد وإطلاق سلسلة من اللقاءات الإقليمية والجهوية التشاورية لإعداد “الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية المندمجة”.
تزامُن هذه اللقاءاتالمنطلقة من واقع المجالات الترابية وحاجاتها الفعليةمع إعادة هيكلة على مستوى المسؤولين الترابيين، يبعث برسالة قوية حول جدّية المدبّر العمومي في تفعيل هذه الرؤية التي تجعل من المجال ليس مجرد مستهدَفٍ، بل فاعلا مركزيا في إنتاج التنمية الالتقائية، إلا أن “التحدي الأكبر يظل في صياغة برامج ذات أهداف واقعية وموارد كافية، وفي مدى قدرة هذه الدينامية الجديدة على ترجمة روح الإشراك التي نص عليها الخطاب الملكي إلى واقع ملموس.
يأتي ذلك مع تنامي الوعي بأهمية تطبيق الجهوية المتقدمة، طارحا أسئلة جوهرية: هل ستنجح هذه اللقاءات فعلا في تلبية الحاجيات الحقيقية للساكنة من خلال مقاربة تشخيصية عميقة تتجاوز الأجندات الجاهزة؟ والأهم من ذلك، هل ستتمكن من ضمان الإشراك الفعال والمنهجي لجميع الفاعلين الترابيين، خاصة من المجتمع المدني بقطاعاته وفئاته المتنوعة، للخروج ببرامج تتبنى “التنمية من الأسفل” وتضمن ديمومة وفعالية نتائجها المرجوة في تحقيق الكرامة وتكافؤ الفرص المجالية؟
“الحكامة الجديدة” والإشراك الفعال
شكلت الدينامية الراهنة على صعيد الإدارة الترابية، المتعلقة بإعداد الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية المندمجة، فرصة مفصلية للمغرب “للانتقال نحو نموذج عمل جديد وأكثر فاعلية”. هذا التوجه المتجدد يستلهم روحه مباشرة من الخطاب الملكي الذي دعا إلى “تنمية مجالية ومحلية تأخذ بالخصوصيات وتُغيّر من العقليات ومنطق العمل الترابي السائد”، وفق ما أبرزه طارق المودن، باحث المتخصص في قضايا التنمية الترابية.
وفي تصريح لهسبريس، شدد المودن على أن “ركيزة التحول الجوهري تكمن في مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة كركيزة للحكامة الجيدة”، مستدركا: “لكن، يتعيّن أن نفهم هذا المفهوم ببعده الحديث: فالمحاسبة ليست مجرد تحمل للتبعات، بل هي في جوهرها إنجاز مُوجِّه للواقع وخدمة تطلعات السكان. وبالتالي، يضع هذا النموذج الجديد الفاعل الترابيسواء كان سلطة محلية، أو منتخبا، أو إدارة عمومية، أو مجتمعا مدنيافي قلب عملية الحكامة والحكمة في تدبير الشأن العام”.
ويرى الباحث المختص، الذي سبق له العمل على وضع برامج تنموية ترابية، في “اعتماد المشاورات على المستوى الإقليمي، بدلا من الاقتصار على البعد الجهوي، خيارا أنسب وأكثر واقعية، نظرا لخصوصيات كل إقليم والمعرفة الأعمق للفاعل الإقليمي بمجاله”، مشددا على أن “ضمان نجاح هذه المقاربة يتطلب بالضرورة تبني مقاربة تشاركية شاملة تبدأ بـالإنصات الجيد والبرمجة المشتركة وتستمر عبر مراحل التفعيل والتقييم، لتنتهي بالمحاسبة المشتركة”.
وأثار المودن في حديثه لهسبريس “التحدي المنهجي” من خلال اعتبار “الانتقاد الموجه لاقتصار هذه اللقاءات داخل مقرات العمالات هو انتقاد يتسم بالوجاهة؛ إذ إنّ ‘هيبة’ هذه المقرات قد تحد من التعبير الحر وتؤثر على جودة التشخيص”، مناديا بـ”نقل هذه المشاورات إلى فضاءات محايدة ومفتوحة، وتوسيع دائرة المشاركين لتشمل ليس فقط الجمعيات والتعاونيات، بل أيضا الجامعات والأساتذة والخبراء، مع إتاحة قنوات مكتوبة لتقديم التصورات بعيدا عن ضغط اللقاءات/الجلسات الحضورية”. وتابع ملحا: “يجب أن تركز العملية برمتها على المواطن؛ فالمواطن هو من يحدد الأولويات بوضوح، ثم يتم ترتيب الحلول وفق الضرورات قبل الثانويات (…) وتوقّعنا الثابت هو أن المقاربة التشاركية المحسّنة ستنتج برامج أقرب ما تكون إلى احتياجات المواطنين وأكثر جودة وفعالية، مما يضمن التنزيل الحقيقي للتنمية الترابية المندمجة التي ينشدها جلالة الملك”.
وأجمَل الباحث ذاته مؤلّف كتاب “تناغمات مستدامة.. مقترحات من أجل تنمية ترابية مسؤولة” فكرته بالقول: “راكم المغرب خلال العقود الأخيرة تجارب تنموية مجالية ومحلية نوعية من طنجة إلى الكويرة، غير أن أثرها لم يبلغ بعدُ جميع الفئات والمناطق بالقدر المنشود، حيث الإشكال اليوم لا يكمن في توفر الموارد أو وضوح السياسات بقدر ما يتجسد في رهان الحكامة. فالمعركة الحاسمة للسنوات المقبلة تتمحور حول ترسيخ الحكامة الجيدة والتشاركية، التي تُعيد وصل الثقة بين الساكنة والفاعلين التنفيذيين، وتجعل المواطن شريكا فاعلا وصاحب صوت في صياغة القرار التنموي وتنفيذه”.
وخلص المودن إلى أن “نجاح هذا التحول رهين بتغيير العقليات وأساليب التفكير والعمل داخل المؤسسات الترابية، وبالإصرار على الممارسة الميدانية المتكررة التي وحدها قادرة على ترسيخ ثقافة التشارك، وتحويلها إلى رافعة عملية لتحسين جودة التنمية وخدمة الصالح العام”.
“فجوة الطموح والممارسة”
المصطفى العيسات، عضو الشبكة الوطنية للتحالف المدني للشباب، قال إن جوهر التحديات التي تواجهها سياسات التنمية الترابية المندمجة، خصوصا في السياق المغربي، “استدعت هذه المقاربة كركيزة أساسية لتنفيذ أهداف النموذج التنموي الجديد وتعزيز الحكامة المحلية”.
وباعتباره أيضا من الفاعلين المدنيين الذين شاركوا في محطة إطلاق مشاورات ترابية بجهة الرباطسلاالقنيطرة، أضاف العيسات، في تصريح لهسبريس، أن المقاربة الترابية المندمجة تنطلق من رؤية واضحة: “التنمية الصاعدة من الأسفل”، أي أن تكون مبادرات التنمية نابعة من واقع الساكنة وحاجياتها الميدانية، مع “الإدماج الفعّال لجميع الفاعلين: الجماعات الترابية، القطاعات الحكومية، القطاع الخاص، والمجتمع المدني”، و”التكيف مع الخصوصيات المحلية (الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، البيئية…)، بدل فرض وصفات جاهزة من الأعلى”.
في المقابل، ورغم هذه الرؤية الطموحة، “تُظهر التجارب الميدانية العديد من الإكراهات الهيكلية والإجرائية التي تحد من فعالية هذه الديناميات”، بحسب الفاعل المدني ذاته، الذي أثار “إشكالية الإشراك الحقيقي للمجتمع المدني؛ إذ في كثير من الحالات، يُستدعى ممثّلو جمعيات المجتمع المدني شكلا لا مضمونا، كديكور في اللقاءات، من دون تمكينهم من إبداء رأي مؤثر أو اتخاذ قرارات”، منبها إلى أن “ضعف قدرات بعض الجمعيات (خاصة في الوسط القروي) من حيث التكوين، الاقتراح، أو المتابعة، يجعل مشاركتها محدودة التأثير”، علاوة على أن “غياب آليات تمثيلية ديمقراطية داخل المجتمع المدني نفسه قد يؤدي إلى احتكار الصوت من طرف فاعلين غير ممثلين فعليا للساكنة”.
وأضاف بالشرح: “تُعتبر المقاربة الترابية المندمجة من حيث المبدأ رؤية تقدمية وضرورية لبناء تنمية مستدامة وعادلة؛ إذ ترتكز على التكامل بين القطاعات والفاعلين المحليين وتهدف إلى جعل المواطن شريكا حقيقيا في صياغة وتنفيذ البرامج التنموية. هذه المقاربة تعكس إدراك الدولة لأهمية الانتقال من منطق المشاريع القطاعية المعزولة إلى منطق التنمية المندمجة والشاملة، حيث تتقاطع الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية لضمان أثر ملموس وواسع الانتشار”.
أما على مستوى الممارسة، فـ”المقاربة تواجه تحديات كبيرة؛ إذ تُقابلها عوائق بنيوية وتشغيلية تجعل تحقيق الطموحات محدودة. من بين هذه العوائق، المركزية المفرطة في اتخاذ القرار، ضعف الموارد المادية والبشرية، غياب ثقافة المشاركة الفعلية، وضعف التنسيق بين الفاعلين”، يورد العيسات الذي زاد عامل “عدم تمثيلية بعض المجتمعات المحلية والجمعيات في تصميم وتنفيذ المشاريع”، موردا أن “هذه العوامل تؤكد أن المسار لا يزال في بداياته، وأن نجاحه يتطلب مراجعة مستمرة لآليات التنفيذ لضمان فعالية أكبر”.
وفي تقديره، فإن تجاوز العوائق يفرض “اعتماد آليات واضحة لتعزيز إشراك جميع الفاعلين المحليين، تشمل تمكين المجالس المنتخبة والمجتمع المدني، تمويل المشاريع وفق أولويات محلية محددة، بناء قدرات الجمعيات والفاعلين، وضمان الشفافية والتقييم المستمر للأداء”.
كما نوه المصطفى العيسات إلى “وجوب العمل وفق الأقطاب الأساسية التي تشكل ركيزة التنمية الترابية، مثل التربية والتعليم، الصحة، دعم التشغيل، البيئة والمياه، وتأهيل المجال، مع إدراك أن التنمية الترابية المندمجة ليست وصفة سحرية، بل مسار طويل يتطلب إرادة سياسية حقيقية، ثقافة ديمقراطية راسخة، وثقة متبادلة بين الدولة والمواطنين”، بتعبيره.
المصدر: هسبريس
