التعليم العالي في المغرب.. الحاجة إلى رؤية استراتيجية متكاملة ومستدامة
منذ فجر الاستقلال، كان حلم بناء تعليم أصيل، شعبي، وديمقراطي يستمد قوته من المرجعية الإسلامية ويساهم في نهضة المغرب، مطلبًا شعبيًا للشعب المغربي الذي عانى عقودًا من التخلف بفعل الاستعمار وتبعاته. وقد بدأت أولى المحاولات لتحقيق هذا الحلم مع حكومة عبد الله إبراهيم، التي وضعت أسس التعريب والمغربة والتعميم والتوحيد. لكن سرعان ما تم التراجع عن هذه المبادئ بسبب مخاوف السلطة السياسية من تأثير التعليم على استقرارها، مما أدى إلى استمرار التخلف والأمية.
إصلاحات متكررة بلا نتائج
بعدما أدرك المغرب خطأه الاستراتيجي في التعامل مع التعليم، باعتباره أحد أهم روافع التنمية، أطلق عدة إصلاحات ومناظرات على مدى عقود. وفي نهاية القرن الماضي، صدر الميثاق الوطني للتربية والتكوين، متبوعًا بقوانين ²مثل القانون 00.01 الخاص بالتعليم العالي. ورغم اعتبار الميثاق حينها بمثابة الخلاص من الأزمة البنيوية التي يعاني منها التعليم، إلا أن المجلس الأعلى للتعليم كشف عن عيوب كبيرة في الميثاق في المستويات البيداغوجية والديداكتيكية والتطبيقية، حيث بقي التعليم مركزا على المحتويات النظرية وضعف المتعلمين لغويًا ومعرفيًا.
ولمواجهة هذه الإشكالات، أقر المغرب البرنامج الاستعجالي، الذي رُصدت له ميزانيات ضخمة دون أن يحقق النتائج المرجوة. وشكّل تأسيس المجلس الأعلى للتربية والتكوين خطوة مهمة في تاريخ الإصلاح التعليمي، إذ وضع رؤية استراتيجية للفترة 20152030 تحت شعار: “من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء”. ورغم الإجماع على مبادئ هذه الرؤية، فإن تنزيلها العملي لم ينجح في تجاوز أخطاء الإصلاحات السابقة.
إشكالية التناوب اللغوي وتراجع اللغة العربية
من جانب القوانين، استغرق الأمر أربع سنوات للمصادقة على القانون الإطار 17.51 في مارس 2019، والذي تضمن إقرار التناوب اللغوي، مما سمح لهيمنة اللغات الأجنبية، خصوصًا الفرنسية، في تدريس العلوم. هذا التحول أثار مخاوف من تراجع اللغة العربية، كلغة رسمية وهوية ثقافية للأمة. ولم تمضِ فترة طويلة حتى تحققت هذه المخاوف بعد اعتماد اللغة الفرنسية كلغة تدريس في جميع المؤسسات الثانوية بالنسبة للمواد العلمية.
متطلبات الإصلاح الجامعي: إرادة سياسية ومرجعية لغوية واضحة
إن الإصلاح الجامعي في المغرب يتطلب أولاً وقبل كل شيء إرادة سياسية حقيقية تستند إلى مرجعية الدولة الأسمى، وهي المرجعية الإسلامية. هذه المرجعية ليست مجرد إطار ديني، بل هي منظومة قيمية وأخلاقية تُعزز الهوية الوطنية وتوجه السياسات نحو خدمة الصالح العام. على الدولة أن تلتزم بتوجيه سياساتها التعليمية بما يتوافق مع هذه المرجعية، مما يعني تبني رؤية شاملة تحترم الخصوصيات الثقافية والدينية للمجتمع المغربي.
سياسة لغوية متوازنة وفاعلة
لا يمكن الحديث عن إصلاح التعليم دون معالجة إشكالية اللغة. ومن أجل ذلك يجب تبني سياسة لغوية واضحة تركز على تعزيز اللغات الرسمية للبلاد، وخاصة اللغة العربية التي تمثل جزءًا من الهوية الثقافية والتاريخية للمغاربة. دعم اللغة العربية لا يعني التقليل من أهمية اللغات الأجنبية، بل على العكس، يجب أن يكون تعليم اللغات الأجنبية، مثل الفرنسية والإنجليزية، جزءًا أساسيًا من المناهج الدراسية لتأهيل الطلاب للعالم المهني والعلمي. الهدف هو خلق توازن لغوي يمكّن الطلبة من اكتساب مهارات متعددة اللغات دون المساس بالهوية اللغوية الوطنية.
ربط التعليم بسوق العمل: مناهج تراعي متطلبات الواقع الاقتصادي
يجب أن تكون الجامعات المغربية مرتبطة بشكل وثيق بسوق الشغل، وذلك من خلال تحديث المناهج الدراسية بما يتلاءم مع متطلبات سوق العمل المحلي والدولي. يعني هذا تطوير برامج أكاديمية تركز على المهارات العملية والتكنولوجية، وتشجيع التدريب المهني والتطبيقي كجزء من المسار التعليمي. التعاون بين الجامعات والقطاع الخاص ضروري لخلق فرص تدريبية تساهم في إعداد الطلبة للاندماج السلس في سوق العمل.
الحكامة الجيدة ومكافحة الفساد: أسس ضرورية للإصلاح
يجب أن تكون الحكامة الجيدة ومكافحة الفساد المالي والإداري في صلب عملية الإصلاح الجامعي. الشفافية والمساءلة في إدارة الجامعات تعد أساسية لضمان توجيه الموارد المالية والبشرية نحو تحقيق الأهداف التعليمية. يتطلب هذا اعتماد آليات صارمة لمراقبة الميزانيات ومحاربة الفساد لضمان أن يتم إنفاق الأموال بطرق تخدم تحسين جودة التعليم وليس لتلبية مصالح ضيقة.
استراتيجية مدروسة بعيدة عن الارتجالية: نحو إصلاح شامل ومستدام
الإصلاحات التعليمية يجب أن تُبنى على أسس استراتيجية واضحة ومدروسة، تعتمد على دراسات علمية واستشارات موسعة تشمل كافة الأطراف المعنية من أكاديميين، وطلبة، وخبراء تعليم، وممثلي القطاع الخاص. يجب أن تكون هذه الإصلاحات شاملة ومستدامة، بعيدًا عن الحلول الارتجالية التي تُغيّر مسار التعليم مع كل تغيير سياسي. المطلوب هو خطة طويلة الأمد، تعطي الأولوية للتحديات الحقيقية وتضع أهدافًا واقعية قابلة للتحقيق.
تحديث البنية التحتية للجامعات: بيئة تعليمية تناسب العصر
تحديث البنية التحتية للجامعات يعد مسألة ملحة لا تحتمل التأجيل. يجب على الحكومة أن تستثمر في بناء وتحديث المرافق الجامعية، وتوفير التجهيزات الحديثة التي تلبي متطلبات التعليم العصري. من الضروري أيضًا تحسين المرافق البحثية والمختبرات وتطوير المكتبات الرقمية، لتمكين الطلاب والباحثين من الوصول إلى الموارد والمعرفة اللازمة.
تمويل التعليم العالي: شراكة بين الدولة والقطاع الخاص
لضمان استمرارية ونجاح الإصلاحات، يجب إشراك كافة المؤسسات الوطنية والشركات الخاصة في تمويل التعليم العالي، عبر إنشاء صناديق دعم وتقديم منح بحثية، وتمويل مشاريع مشتركة بين الجامعات والقطاع الخاص. الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص ستساهم في تخفيف العبء المالي على الحكومة، وتضمن توفير موارد إضافية لتطوير البرامج التعليمية والمشاريع البحثية.
مقاربة تشاركية حقيقية: إشراك المجتمع الأكاديمي والطلبة في الإصلاحات
الإصلاحات لا يمكن أن تكون فعالة إذا تمت دون إشراك حقيقي لكافة الفاعلين في الحقل التعليمي. يجب أن تكون هناك مقاربة تشاركية تضمن مشاركة الأساتذة، الطلبة، والإداريين في صياغة وتنفيذ الإصلاحات. آراء ومقترحات هؤلاء الفاعلين مهمة لتصميم إصلاحات تلبي احتياجاتهم وتراعي واقعهم. إشراك الجميع في الحوار يضمن التزامهم بتحقيق الأهداف المرجوة ويعزز من فرص نجاح الإصلاح.
باختصار، الإصلاح الجامعي في المغرب يحتاج إلى رؤية شاملة ومتكاملة تتبنى مرجعية الدولة، وتُحدث تحولًا حقيقيًا في التعليم العالي من خلال التوازن اللغوي، ربط التعليم بسوق العمل، تحسين الحكامة، تحديث البنى التحتية، وضمان تمويل مستدام عبر شراكات استراتيجية مع القطاع الخاص. فقط بهذه المقاربة يمكن تجاوز التحديات الراهنة وتحقيق نقلة نوعية في النظام التعليمي الجامعي.
المصدر: العمق المغربي