يقول محمد عبد الواحد العسري، أستاذ تاريخ الأفكار والفلسفة، إنّه “رغم مرور هذه الأزمنة الطويلة، ورغم المصالح المختلفة التي تجمع الغرب بالإسلام، فإنّ التصوّرات الغربية عن الإسلام والمسلمين لم يستطع الزمن أن ينال منها، ولم يتحقق أي تغيّر نوعي إلى حد الآن”، وذلك لأسباب عديدة، من أبرزها بحسبه “الترجمة اللاتينية الأولى لمعاني القرآن”.
جاء ذلك في لقاء للعسري مع الإعلامي ياسين عدنان، ضمن بودكاست في الاستشراق الذي تعرضه “منصّة مجتمع”، حيث نبّه إلى دور “اللاوعي الجمعي للغرب” في استمرار “التصوّرات الغربية عن الإسلام” دون “أي تغيير نوعي”. وعاد إلى تشكّل هذه التصوّرات مع أول مشروع علمي للتعريف بالإسلام أطلقه “بطرس المبجّل”، الذي نقل معارف من العربية إلى اللاتينية، انطلاقًا من رؤية تعتبر أنّ النصرانية في الأندلس قد انحرفت بسبب اتصالها بالإسلام والمسلمين، وتعايشها معهم، واستعمال اللغة العربية. وكان الغرض من هذا العمل “إصلاح هذه النصرانية” بأمر من البابا، الذي كان يريد حمل الناس على مذهب مخصوص من النصرانية، هو الكاثوليكية الرومانية. ومن هنا برزت الحاجة إلى معرفة الإسلام من الداخل، لمجادلته ومحاصرته.
وهكذا تُرجمت علوم من العربية، منها الرياضيات والفلك، إلى جانب معاني القرآن، وسيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والتاريخ الإسلامي، والجدل بين النصارى والمسلمين، من قِبَل مجموعة يضمّ بعض أفرادها من يتقن لغة المصدر، ومن يتقن لغة الهدف، وآخرين يتقنون اللغات الوسيطة. غير أنّ هذه الدينامية بحسب العسري “انطلقت في الواقع من الذات النصرانية، وتمحورت حولها”.
هذا التمركز حول الذات الدينية هو ما يفسّر، وفق المتحدّث، “التشويه والتحريف اللذين لحقا مجمل هذه الترجمة اللاتينية الأولى لمعاني القرآن”. فقد تبعت هذه الترجمة “تأثير العهدين القديم والجديد في القرآن، وفي الإسلام، واختزلت الإسلام في هذا التأثّر، وكأنّه لا يمكن أن يكون إلا امتدادًا للعهدين”. كما طمست “كل الاختلافات القائمة أو الممكنة بين القرآن والعهدين القديم والجديد”.
ويرجّح العسري أنّ منطلق الترجمة كان اعتبار القرآن “ليس سوى امتداد للكتابين السابقين”. وقد وُجّهت هذه الترجمة إلى النصارى باللاتينية، لمحاصرة جاذبية الإسلام، انطلاقًا من فكرة أنّ “القرآن مجرّد تكرار منحرف ومهرطق للعهدين القديم والجديد”. وفي سبيل ذلك، تحاشى المترجمون كل المفردات والمعاني الخاصة بالإسلام والمسلمين، واستعاضوا عنها بتسميات مثل “المحمّديين”، و”الهراطقة”، و”المنحرفين”، و”الإسماعيليين”، في إطار “التحوير”. كما أُضيفت معانٍ وأسقطت مصطلحات من ترجمة معاني القرآن، مثل عبارة “ومهيمناً عليه” في سورة المائدة، التي تفسّر العلاقة بين الكتب السماوية السابقة والقرآن.
أين يكمن وجه الخطر؟ يجيب أستاذ تاريخ الأفكار والفلسفة: “هذه الترجمة هيمنت على التصوّرات، وعلى جميع الترجمات التي جاءت بعدها، سواء إلى اللاتينية أو إلى اللغات القومية الأوروبية، في نقلها لمعاني القرآن الكريم، دون الرجوع إلى اللغة العربية”.
وتناول اللقاء أيضًا إشكالية الهوية بين المسلمين والمستشرقين الإسبان، بخلاف نظرائهم البريطانيين أو الألمان، بفعل التمثّل المسبق لدخول المسلمين “عنوة، وأخذهم الأموال والعيال…”، قبل قرون من نجاح الإسبان في الانتصار عليهم وطردهم، وتأسيس الهوية الإسبانية عبر ما سُمّي بـ”حروب الاسترداد”.
وقد صُوّرت هذه الهوية الإسبانية بوصفها هلّينية يونانية ومسيحية كاثوليكية، في مواجهة “آخر” هو الإسلام والمسلمون. وهذا ما يفسّر العلاقة المعقّدة للمستشرقين الإسبان مع الماضي العربي الإسلامي لشبه الجزيرة الإيبيرية، التي نسمّيها الأندلس، بفعل تمثّلات حاضرة في اللغة والخطاب حول “الغزو” أو “الفتح”، والسعي إلى تطويع الإسلام ليصبح “إسلامًا إسبانيًا على المقاس”. بل إنّ بعضهم اعتبر ابن باجة وابن رشد وابن حزم وابن عربي “إسبانًا أقحاح”، وأنّ إنتاجهم الفكري امتداد للهلّينية اليونانية، وأنّ إنتاجهم في الزهد والتصوّف استمرار للنصرانية الكامنة فيهم. كما روّجت تفسيرات تزعم أنّ الطبائع يحكمها الدم فتؤثر في التاريخ والثقافة، وهي تأويلات عنصرية ولا علمية، هدفها نفي الغيرية، واعتبار إسبانيا مكتملة الهوية رغم استبعاد تاريخ المسلمين والعربية منها.
المصدر: هسبريس