أريد أن أؤكد أنني لا أكره المال، وأريد كغيري أن أتوفر على ما يقيني ضد عاديات الزمن. أؤكد أن التوفر على رصيد في البنك، يعتبر بالنسبة لكثير من المغاربة من الطبقة الوسطى، ومن الطبقات الفقيرة، ضمانة للولوج إلى العيش الكريم البسيط والبعيد عن مستوى فئة المليارديرات التي ظهر جلها فجأة في فضاء وطني، وجزء كبير منها يمثل أمامنا دور السياسي النزيه الذي رزقه الله من حيث لا يحتسب. ولكن الشعب يعلم جيداً مصدر الاغتناء، وبعضه يحابي، والآخر ينتظر أن يتم تفعيل المحاسبة.

نعم، أؤكد أنني لست ذكياً مثل بعض السياسيين ذوي التكوين المتوسط. لم أسعَ، ولن أسعى إلى القفز من أسمى درجات الوظيفة العمومية، وهي درجة “المعلم، الأستاذ”، لكي أصل إلى درجة مستشار جماعي، ثم برلماني، ثم وزير، ثم صاحب شركة في مجال خدمات تضمن “الأمن الخاص” لبعض المؤسسات العمومية بما فيها المستشفيات، ثم أصرخ بأعلى ما تتيحه أوداجي، أنني اجتهدت مثل سائر المواطنين الأغنياء. “الطز على من يستغلون السياسة لكي يصبحوا بزناسة”.

نعيش زمن سيطرة المال على السياسة، وننسى أن مستقبل بلادنا مرتبط بحماية الوطن من مستغلي تدبير الشأن العام، ومن شراهتهم في السطو على المال العام من خلال خلق سريع لشركات تحظى بكثير من الصفقات العمومية. قال الحكماء: “كاد المعلم أن يكون رسولاً”، وقال رئيس حزب أصبح مليارديراً: إن من تميز في حزبه يمكن أن يحصد صفقات تجعله يطير إلى جنة أصحاب الحظوة وذوي الملايير.

وفي البدء، وجب القسم بكل الإيمان بأن التجمع الذي كلف محمد عصمان بخلقه، لا علاقة له بتجمع اليوم. ثقافة عصمان ورفاق دربه كالدَّاي ولد سيدي بابا، وعبد الله غرنيط، وعبد الصمد الاستقصا، وكثير ممن لم ينتموا لحزب الاستقلال ولا للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والذين كنا لا نحمل لهم أي “تقدير” سياسي، ساهموا، بالرغم مما كنا نعتبره خطيئة سياسية، في تأسيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان. أما زعماء هذا الحزب في يومنا هذا، فلا ذاكرة تاريخية لدى الكثير منهم. النموذج الوحيد لدى بعضهم، كباقي أحزاب البلاد، يدفعهم إلى تكوين ثروة، والسبل الكثيرة متاحة لهم.

ومن أقسم على العكس، فاللجوء إلى مسطرة المحاسبة، وتقديم تبرير عن تحوله من عالم الكفاف إلى مرحلة التنكر للعفاف عبر امتلاك الأرصدة البنكية والعقارية، ونهج حياة الترف. ورحم الله أجدادنا من أصحاب “الحل والعقد” الذين باركوا سنة “التتريك” ونزع ممتلكات العديد من الأمناء، والقياد ومسؤولي القضاء وغيرهم.

عرفت كثيراً من الشباب الذي حمل مشروعات في عدة مجالات. وعرفت أيضاً كيف تعرضوا لسرقة أفكارهم، وقرروا مغادرة البلاد إلى الأبد. حاولت مساعدة صديق فضّل، قبل سنوات، مغادرة كندا، حيث كان من أوائل علماء الذكاء الاصطناعي. دق الأبواب كلها، وشارك في عدة منتديات شاهد من خلالها أن الأمل في غرس تجربته في تربة وطنه تحول إلى وهم. وحصل أن تعرف على الواقع حين قال له أحد الوزراء، الذين كان معوَّل عليهم في نقل المغرب إلى مرتبة أعلى في مجال الذكاء الاصطناعي، إن ابنته المصونة تشتغل على نفس المشروع، وأنه لن يساعده. فأصبح اليأس لديه واقعاً مريراً. قرر أن يبحث لأفكاره عن مستقر في إفريقيا. ساهم في ملتقيات، وأطر ندوات في كثير من دول قارتنا.

وجاء الكوفيد، واضطر صديقي إلى قضاء كثير من الأوقات في المطارات قبل أن يصل إلى المغرب. شعر بضيق في التنفس، لجأ إلى الأصدقاء الذين عشنا، وعاش معهم لحظات جميلة في فرنسا في فترة السبعينات. دخل إلى الإنعاش، بكثير من العلم في صدره، لكن الصدر ضاق بما لا يطاق. فحلقت روحه بعيداً عن واقع البشر في بلاد تحتاج إلى كل حامل للفكر.

تذكرت الفتى الذي حصل على الباكالوريا في سن مبكرة وذلك سنة 1973، فأهداه أخوه الأكبر كل ما يملك وهو مبلغ 500 درهم. تعلم وتوفق، وناضل وكان يحب الفن والأدب. كلفني أن أحمل بعض اللعب البلاستيكية إلى أبناء أخته سنة 1981. وصلت إلى ساحة السراغنة بالدار البيضاء. كان صوت الرصاص يلعلع، كنت أحمل حقيبتي وبداخلها تلك الألعاب. أمسك بي شرطي بقوة، وبعد أن عرف أنني لا أحمل غير لعب بلاستيكية، أمر أحد الطاكسيات بإيصالي إلى محطة بن جدية.

مات عالم من علماء الذكاء الاصطناعي، وبرز نجوم في عالم التبزنيس عبر ممارسة السياسة التي تمنح المتميز مفتاح الحصول على الملايين. مات شباب في زمن الرصاص في مخافر شهدت أبشع أشكال التعذيب، وقرر المغرب بناء مؤسسات قطعت مع ماض عبر “الإنصاف والمصالحة”. ويوجد اليوم من يريد أن يدفع بالدولة إلى مواجهة مع المواطن عبر خلق أزمات في قطاعات الصحة، والتعليم، وتدبير التراب الوطني، وصناعة أساليب خطيرة للاعتداء على أحياء في الرباط ومدن أخرى بأساليب لا زالت غير معروفة لدى ضحايا حي المحيط بالرباط، وأحياء أخرى. ولا زال المواطن ينتظر بلاغاً رسمياً يعلن عن شكل جديد وقانوني للفضاء الحضري. ويستمر “البزناسة” في مراكمة المال غير مهتمين بقضايا التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

ويأتي رئيس الحكومة ليقزّم دور كل من يقولون الحقيقة أمام تردي المستشفى العمومي، والمدرسة العمومية، وتردي الخدمات الاجتماعية. يقول الكثير عن استثمارات الدولة في المجال الاجتماعي. ولا يمكن أن ننكر أن البنايات المدرسية والاستشفائية تكاثرت، ولكن يمكن أن نقول إن الولوج إلى الخدمات الصحية والمدرسية تراجع بشكل كبير. لا يجب أن يسخّر رئيس الحكومة أبناءه من منطقته، لكي يرقصوا، أو يتلقوا عشرات الجمال والنوق، والنطق بخطاب نمطي ومستهلك، لتهدئة المغاربة أمام واقع مرير.

لا زلت أتذكر غياب حزب رئيس الحكومة، وأمناء أحزاب أخرى حين كانت بلادنا تجتاز ما سمي بالربيع العربي في شهر فبراير. غاب كثير من الزعماء لفترة قبل أن يجبروا على الخروج من جحورهم بعد خطاب ملكي يوم 8 مارس. ولا أظن أن هؤلاء سيقفون أمام فئات شعبية تطالب بالعدالة الاجتماعية والمجالية. فضّلوا مراكمة الثروات، وهم يخطبون في الناس باسم التوزيع العادل للثروات، ومحاسبة كل محتال يدبر الشأن العام.

أتمنى أن ينزل السيد عزيز أخنوش من سياراته، وأن يسمع بصدق إلى من لا يرقصون له أمام الجموع ويبدعون في الثناء على ما يقولون إنها إنجازات تشبه المعجزات. أتمنى أن يزور، دون كاميرات، وبعيداً عن حاملي الميكروفونات من أشباه الصحافيين، مستشفيات ومدارس المملكة. أرجو أن يقوم السيد الرئيس بالاتفاق مع وزير العدل بزيارة عادية لبعض المحاكم. أرجو أن يسمح الوقت للسيد رئيس الحكومة بالذهاب في الصباح الباكر إلى سوق الفواكه والخضر واللحوم والأسماك.

توقف، أيها الرئيس، عن قراءة التقارير لكي تشاهد أن السردين أصبحت له أجنحة قوية على مستوى الأسعار. لاحظ بأن الطماطم، والجزر، والبطاطس حلقت بعيداً عن القدرة الشرائية للمواطنين. سجل يا مهندس المغرب الأخضر أن كل أهداف هذا المخطط لم يتم تحقيقها. اسأل المواطن في الأسواق، ولا تتخاطب معه عبر الأبواق. مشكلتك أنك تنسى أن استقرار المملكة المغربية صنعه من أبعد السياسة عن التجارة، من ضحى بعرشه من أجل أرض وشعب سنة 1953، وصنع مع الأوفياء للوطن، وهو في منفى سحيق، ثورة الملك والشعب. ولتعلم جيداً أن إفساد السياسة سيقود بلدنا إلى المجهول.

ويظهر بالملموس أن الحكومة الحالية لا تعير أي أهمية للمواطن. ويظهر أن أحزاب الأغلبية لا تتواصل فيما بينها. ويظهر جلياً أن السيد أخنوش لا يأبه لمن يشاركونه في هذا التدهور الخطير الذي تعيشه طبقات اجتماعية. نبلغ ليس إلا… وما على المواطن الملاحظ إلا البلاغ.

حدثت كثير من العلاقات بين الأبناك وشركات التأمين، والاستهلاكيات الفلاحية الكبرى وشركات العقار، ومؤسسات الاستشارة المالية، وشركات استيراد المواد الطاقية، وغابت المحاسبة المنصفة للجميع. صرخ بعض المواطنين أمام بعض المستشفيات. تذكروا أن جميع الأحزاب غابت عن الفعل في حراك الريف وجرسيف قبل سنوات. نريد أن ينعم بلدنا بالاستقرار، والأمر يتطلب لجم طموح من يستعمل الحزب والمؤسسات لتضخيم ثرواته وهو يزدهي بالقدرة على الإفلات من المحاسبة.

ويستمر هذا الأمر منذ سنوات دون تقييم آثاره على استقرار الوطن أولاً وأخيراً. لا يجب أن ننسى أن للصبر حدوداً، وأن لأعداء الوطن حضوراً، وأن اختلاط الشعور بالغبن تلتقطه آليات خارجية تحوله إلى حقد، ثم إلى تهديد لسلامة البلاد. وسيظل العدل أساس الملك. ستفتح بعد عام منافسات بين أحزاب في إطار انتخابات قد تشهد أضعف نسبة مشاركة من طرف المواطنين. يستحق المغرب إطاراً انتخابياً يقطع دابر الانتهازيين، ويحاسبهم بناء على مبادئ يسود فيها سؤال: “من أين لك هذا؟”.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.