البرلمان يستعين بالذكاء الاصطناعي لتسريع وتجويد العمل التشريعي
في وقت ينشغل فيه العالم بالحديث عن ثورة تقنية مخيفة قد تجعل الآلة تحل محل البشر، كان المشهد مختلفا في ركن هادئ بالطابق الثالث من عمارة لا تبعد سوى بضع مئات الأمتار عن شارع محمد الخامس بالرباط. هناك، جلست ثلاث سيدات في الثلاثينيات من العمر أمام حواسيبهن داخل مكتب مشترك، تغلفه هالة من التركيز العميق. لم يكن يُسمع سوى صوت لوحات المفاتيح، حيث ترقن أصابعهن الحروف لتدوين ما تنصتن إليه بحرص شديد.
غير بعيد عن هذه البناية، كانت الساعة تشير إلى الرابعة إلا ربع، وجلسة الأسئلة الشفهية الأسبوعية بمجلس النواب ليوم الاثنين 23 دجنبر جارية. تناوب وزراء على الإجابة عن أسئلة وتعقيبات نواب الفرق البرلمانية المختلفة، بينما جلس أحمد، طالب بسلك الماستر في كلية الحقوق أكدال بجامعة محمد الخامس، في المكان المخصص للزوار، وهو يتابع أطوار الجلسة بإمعان واهتمام كبيرين، وكأنه يشاهد للمرة الأولى هذا المشهد الحي الذي يصفه بعض المغاربة بـ”السيرك”، في إشارة إلى انتقاداتهم للعمل البرلماني، بينما يراه آخرون مساحة نابضة بالسياسة والتدافع الديمقراطي، وفضاء جديرا بالبحث والدراسة لفهم تعقيداته.
لم يكن أحمد، ذو الـ22 ربيعا، يدرك أن أشغال الجلسة التي يتابعها ستصبح متاحة له بعد يومين فقط، إذ قاده البحث الذي يعده حول المؤسسة التشريعية لحضور الجلسة وتدوين تفاصيلها الكاملة، بعد أن أخبره أستاذه في الجامعة بأن محاضر الجلسات لا تتوفر إلا بعد انتهاء الدورة من السنة التشريعية. غير أن هذا الإجراء بات من الماضي، بعدما نجح “الذكاء الاصطناعي” في تسريع وتيرة العمل، لتجد محاضر الجلسات طريقها إلى النشر في البوابة الرسمية للبرلمان خلال 48 ساعة فقط.
قبل نحو عقد من الزمن، كانت البناية التي تضم مكتب السيدات الثلاث تابعة لإحدى المؤسسات العمومية. لكنها أصبحت، بعد اكترائها من طرف البرلمان، ملحقة تابعة له، لتتحول بسرعة إلى حلقة رئيسية ضمن سلسلة عمل الغرفة الأولى من المؤسسة التشريعية. انتقل إليها عدد من موظفي قسم توثيق محاضر الجلسات، حيث يضطلعون بمراجعة وتدقيق كل التفاصيل قبل نشرها في الرسمية للبرلمان.
هذا التحول التقني والإداري غيّر جذريا طريقة توثيق العمل البرلماني ليصبح أكثر سرعة ودقة في خدمة الباحثين والمهتمين بالشأن السياسي، ونقطة السر تكمن في الذكاء الاصطناعي الذي نجح في اختزال الزمن وتحسين جودة المخرجات، فكيف أصبح البرلمان المغربي يوظف الذكاء الاصطناعي في عمله؟
قصب السبق!
في الوقت الذي ما زالت فيه قطاعات حيوية ومؤسسات رسمية مختلفة تتلمس الطريق وتبحث عن سبل استكشاف وتوظيف “الذكاء الاصطناعي” وسط مخاوف متزايدة من التهديد الذي يشكله على مستقبل عشرات المهن والوظائف، كان العاملون في مصلحة محاضر الجلسات العامة و الرسمية للبرلمان يعيشون قصة مختلفة. بدوا فرحين، بل مزهوين بالتقنية التي حررتهم من ساعات طويلة من العمل المرهق والدؤوب، غير آبهين بالتهديدات الجدية والوجودية لدى البعض. بالنسبة لهم، كانت هذه التكنولوجيا حليفا يعزز إنتاجيتهم بدلا من أن تكون خصما يهدد وجودهم.
يحكي الموظف الذي رافق جريدة هسبريس الإلكترونية في رحلة اكتشاف واستكشاف ولوج البرلمان عالم الذكاء الاصطناعي، عن التحول الكبير الذي أحدثته هذه التقنية في حياته المهنية وحياة زملائه. وبتأثر واضح، استرجع ذكرياته قائلا: “كان العمل في شكله التقليدي مرهقا ويتطلب منا الكثير من الوقت والجهد”. انضم الموظف إلى البرلمان في مطلع الألفية الثالثة، حيث كان الاعتماد على وسائل تقليدية يُثقل كاهل الموظفين، من تفريغ التسجيلات يدويا إلى إعداد محاضر الجلسات العامة بصيغتها النهائية للنشر. أما اليوم، فقد أضحى الذكاء الاصطناعي حلا سحريا أنهى معاناة سنوات، مزيلا عبء الساعات الطويلة ومحوِّلا ما كان يُعد بدائيا إلى ذكريات من الماضي، في ظل مؤسسة باتت نموذجا للتطور التقني.
في السابق، كانت الجلسات تسجل في أشرطة فيديو، ويجري الاشتغال عليها من طرف موظف يقوم بتدوين مضامينها وتفريغها كتابة بخط يده، قبل أن تُحال الأوراق على من يرقنها في الحاسوب، ثم يتم طبعها ومراجعتها من طرف المسؤولين، ليتم إرسال نسخة منها إلى الأمانة العامة للحكومة تمهيدا لنشرها في الرسمية، غير أنه قبل النشر، تتم مراجعتها وإعادتها إلى البرلمان عبر بريد مضمون لفحصها مجددا وتدقيقها قبل إعادتها بشكل نهائي قصد النشر.
لم يكن مسار هذه العملية سهلا على الإطلاق، فقد كان نشر محاضر الجلسات التشريعية في الرسمية يستغرق أشهرا طويلة، تصل أحيانا إلى نصف عام، وفقا لإفادة مصدر مسؤول بمجلس النواب، لكن هذا التأخير أصبح جزءا من الماضي غير المأسوف عليه. اليوم، يتحدث الموظفون بفخر واعتزاز عن الإنجاز الذي حققه المجلس، إذ أصبح بإمكانه إصدار عدد واحد من الرسمية للبرلمان كل أسبوعين خلال الدورات التشريعية، ومرة واحدة شهريا خارجها. وما كان يُعد قبل سنوات ضربا من الجنون والخيال، أصبح واقعا بفضل نجاح البرلمان في تطويع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
بداية القصة
عندما تولى راشيد الطالبي العلمي رئاسة مجلس النواب في النصف الثاني من الولاية التشريعية 20112016، كان التأخر في إعداد محاضر الجلسات التشريعية والنقاشات داخل اللجان البرلمانية المتراكمة يشكل تحديا كبيرا يعيق تطور المؤسسة، فبدأ التفكير في البحث عن حلول مبتكرة للتغلب على هذا التحدي الذي كان يفرمل انطلاقة البرلمان نحو التجدد والتطور.
فرغبة المجلس ورئاسته في إحداث نقلة على مستوى التسيير وولوج المؤسسة عالم الرقمنة والإدارة الإلكترونية، لم يكن يعرف الكثير من المسؤولين والبرلمانيين أن هذه التجربة ستقودهم لتحقيق سبق من نوع خاص، يتجاوز الرقمنة بمراحل كثيرة، قد يعتبره البعض صدفة، إلا أن إصرار المجلس على إيجاد حلول للتحديات التي تواجه عمله كان الكلمة المفتاح فيما تعيشه الغرفة الأولى اليوم من تطور وتقدم.
يتحدث مصدر قريب من الرئاسة في تصريح لهسبريس عن تلك المرحلة المفصلية التي دفعت البرلمان إلى دخول عصر الذكاء الاصطناعي، قائلا إن تلك الخطوة، التي بدأت كتجربة قبل نحو عقد من الزمن، أصبحت اليوم علامة بارزة في علاقة المؤسسات المغربية بالتكنولوجيا الحديثة.
ويحكي المسؤول بالمؤسسة التشريعية أن البحث واستكشاف التقنيات العالمية كانا السبيل الوحيد لتجاوز الأزمة، ويوضح قائلا: “عندما تكلمنا عن الذكاء الاصطناعي وقدراته، كان الأمر أشبه بالرهان على مجهول، لكنه حل كان لا بد منه لمواجهة واقع مرهق”، مبرزا أن كل جلسة برلمانية تصل مدتها إلى “4 أو 5 ساعات، وأحيانا إلى 8 أو 10 ساعات، مع عقد جلستين أو أكثر أسبوعيا. وكان ذلك يشكل عبئا كبيرا على الفريق التقني الذي يعمل على إعداد المحاضر”.
يواصل المسؤول شارحا أمام حاسوب التقني الذي يُصمم المحاضر النهائية في الرسمية للبرلمان، أن “المحاضر ليست مجرد عملية توثيق فقط، بل هي العمود الفقري للعمل البرلماني”، إذ إنها وفقا للنظام الداخلي تمثل “المرجع القانوني لكل ما يُقال ويُناقش داخل قبة البرلمان. إنها وثائق ذات حجية قانونية، خاصة فيما يتعلق بالتصويت والقرارات البرلمانية”.
الجهاز اللغز
داخل هذا المشهد المليء بالتحديات، كان الذكاء الاصطناعي الملجأ والحل لانتشال المجلس من التأخر المزمن الذي يتخبط فيه على مستوى تفريغ وإعداد محاضر الجلسات، عبر استخدام تقنية الاستنساخ الأوتوماتيكي للتسجيلات، الذي اقترحته شركة مغربية ناشئة على المجلس وطورته ليضمن تفريغ الجلسات بشكل آلي ويحولها إلى صيغة رقمية تستدعي المراجعة والتدقيق فقط، من طرف الموظفات الثلاث، اللواتي يتوصلن بالجلسات مجزأة لمقاطع صوتية ومكتوبة، يعملن على التأكد من دقتها وتقويم الأخطاء التي يمكن أن ترد فيها.
يقول الموظف المسؤول: “لما جاءت هذه الشركة واقترحت علينا الخدمة، قدمنا لها أرشيف المحاضر والجلسات التي اشتغلت عليها وأدخلتها ضمن ذاكرة الجهاز الآلي، عبر عملية دقيقة ومعقدة، جعلت من الآلة والجهاز يحاكي العقل البشري ويؤدي وظيفة التفريغ بشكل قريب من الموظف، لكن في ظرف وجيز، وهو ما يدخل ضمن جوهر الذكاء الاصطناعي”.
بدأت عملية التجريب لمدة، فأثمرت نتائج مقنعة “أبهرت” مسؤولي المجلس، الذين لم يترددوا في المضي قدما والعمل بشكل متدرج ومستمر على تطوير وتجويد الخدمة التي سهر على إعدادها طاقم مغربي شاب، يضم كفاءات عالية في البرمجة والهندسة، حيث وصف المصدر المسؤول العملية بـ”الناجحة”.
غير أن التقنية الجديدة، بعد مرور قرابة عشر سنوات من اعتمادها، باتت تحتاج إلى المراجعة والتجديد والانتقال إلى نسخ جد متطورة في العمل عبر الذكاء الاصطناعي، الذي يتيح إمكانيات واسعة ورحبة في تسريع وتجويد عمل المؤسسة التشريعية على مستويات عدة، وهو ما أكد مصدر مسؤول بالمجلس أن التفكير والاشتغال عليه جارٍ، معتبرا أن التفريغ المباشر للجلسات بجودة عالية ومن دون تدخل العنصر البشري، يظل طموحا مشروعا وهدفا للمجلس في المستقبل.
طموح غير محدود
بعد النجاح المقدر والطفرة التي أحدثها توظيف الذكاء الاصطناعي في أداء البرلمان، مازالت شهية المجلس مفتوحة كما أكد مصدر مسؤول لهسبريس للانفتاح على تطبيقه في مجالات أخرى، تدخل في صميم عمل المجلس واختصاصاته وأداء المهام والأدوار المنوطة به.
وكشف المصدر عينه أن التفكير منصب حول توظيف الذكاء الاصطناعي واستثمار الإمكانيات التي يزخر بها على مستويات الترجمة والانفتاح على مختلف اللغات، خاصة وأن المؤسسة تستضيف العديد من المؤتمرات والمنتديات الدولية، فضلا عن الأدوار التي ينبغي أن تضطلع بها في الدبلوماسية الموازية، التي صدرت بشأنها توجيهات ملكية لمختلف الفاعلين السياسيين والمؤسسات التي يمثلونها.
بل أكثر من ذلك، فإن المجلس يدرس بجدية إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال التشريع وعقد المقارنات بين القوانين التي يناقشها البرلمان والقوانين الصادرة عن برلمانات دول أخرى، وهو ما سيمثل إضافة نوعية لتجويد العمل التشريعي وإنتاج نصوص تليق بتطلعات الدولة والمجتمع.
الحماس والطموح اللذين يسيطران على مجلس النواب ومسؤوليه، يؤكدان أن استحضار الذكاء الاصطناعي واستثماره داخل المؤسسة التشريعية ليس مجرد إجراءات وتطبيقات صرف تقنية، بل إنه عمل استراتيجي مخطط له، تبقى مجموعة العمل الموضوعاتية المؤقتة حول “الذكاء الاصطناعي: آفاقه وتأثيراته” أحد تجلياته الكبرى التي تضع البرلمان في قلب القضايا الراهنة والتحديات التي تطرحها في عالم سريع التحول والنمو.
المصدر: هسبريس