الاستقامة في المدرسة المغربية
فقدت المدرسة المغربية الكثير من الاستقامة على مدى 67 سنة من الاستقلال، استقامة المدرس والمفتش والإداري والتلميذ والآباء والمسؤول الحكومي؛ من تحولات المجتمع ومن تأثره بالعوامل الخارجية ومن سياسات حكومية كارثية ومن طبائع مغربية تزول الجبال ولا تزول هي. وبعيدا عن البكاء النوستالجي نقول إن أخطر نقطة مفصلية في تاريخ المدرسة المغربية كانت سنة 1981، حين قررت الدولة المغربية الكف عن خلق الوظائف بضغط من المقرضين الدوليين، من حوالي 80000 منصب إلى 7000 سنة 1982.
انطلاقا من هذا التاريخ لم تعد للمدرسة علاقة بالتشغيل، لم تعد قنطرة تنقل التلميذ أو الطالب المغربي إلى الشغل بشكل آلي كما كان في الماضي، واضمحل بذلك طموح المتمدرسين، منحرفين إلى براغماتية مقيتة تتلخص في النجاح دون مجهود. أما الدولة فسهّلت وتساهلت مع الظاهرة لتعوّض انغلاق الآفاق، وتوفيت بذلك الاستقامة رحمها الله عند التلاميذ والطلبة.
هذه الأجيال غير المستقيمة أدرك بعضها منصب المسؤولية في القطاع العام، ومنه قطاع التعليم. أجيال جشِعة تطمع أكثر وتشتغل أقل، مستفيدة من المناخ العام غير القمعي كالذي عاشته أجيال الاستقلال إلى حدود سنة 2000. ومع الطفرة الكبيرة في التواصل عبر الإنترنيت، أصبح الاستهتار بالمسؤولية منظما داخل شبكات تتواصل بسرعة برأس مال هائل من الإشاعة والكذب؛ حتى وصلنا اليوم إلى ما يشبه العصيان المدني.
في تجربتي التعليمية لم يسبق لي أن أضربت أكثر من ثلاثة أيام، بشكل قانوني، تحت لواء نقابة تعليمية معترف بها، وربما كانت الأيام الثلاثة إضرابا عاما. أما في إطار وزارة التربية الوطنية فلم أعرف أكثر من يومين إضرابا، وعلى مدد متباعدة تصل أحيانا إلى سنين. وفي آخر أيام عملي أصبح المدرسون يضربون مع كل النقابات، منتمين إليها أو غير منتمين، مشككين في النقابات القانونية. وقد حمدت الله أن تقاعدت قبل أن تأتي نقابات الأشباح التي تشتغل وراء ظلام الشبكات الاجتماعية.
مازالت أذكر قرار الحسن الثاني رحمه الله إخضاع المدرسة المحمدية للمهندسين للنظام العسكري وما أثاره من استهجان واحتجاج واتهامات للدولة بالتحول إلى نظام شمولي في جانب التعليم والتكوين، لكن تبين أن القرار كان صائبا، لأن المدرسة المحمدية تحولت إلى وكر للشيوعيين (إلى الأمام) الذين كانوا يضربون أكثر مما يدرسون، مدرسة لتكوين أحسن النخب المغربية تخترقها الإيديولوجيات الهدامة لتحولها إلى مجرد واجهة لـ”النضال” غير المحدود.
يدافع البعض عن المدرسة العمومية بكونها تنتج أحسن المعدلات في البكالوريا، وهذا المعيار غير صحيح، لأن العبرة في نسبة المتفوقين إلى المجموع العام. وقد تعيد الحساب فلا تحصل على أكثر من 5% من المتفوقين نسبة إلى خمسة أو ستة ملايين متمدرس، فأين هو تفوق المدرسة العمومية؟.
مرة، صعقني صديق لي، وهو محام ومثقف كبير ومستقيم ووطني، برأي غريب يمثل الخلاص الوحيد للمدرسة المغربية. قال إن المدرسة المغربية في حاجة إلى نظام عسكري من الابتدائي إلى الثانوي، لأن الاستقامة صفر لا يمكن أن تنتج أجيالا متعلمة. والحقيقة أن رأيه المتطرف فيه بعض الصواب أمام الوضع الذي نحن فيه. تلامذة ينجحون ظلما وعدوانا ومدرسون يجمعون المال من داخل وخارج المدرسة ظلما وعدوانا، وجيش إلكتروني هائل يحميهم بالتجييش والتحريض في أكثر الأحيان بالباطل، فماذا يتبقى من حل؟.
اجتهاد الحكومة في إخراج نظام أساسي يريد فرض سلطة المدير والمفتش، والرئيس والمرؤوس عموما في التعليم وحماية الزمن المدرسي، لم يكن مدروسا بشكل جيد، لأنه جاء في وقت غير مناسب تماما، والسبب في ذلك أن حساسية المدرسين القوية تجاه الاستقامة وصلت إلى مستويات لا رجعة فيها، وأن نهج “العمل أقل والربح أكثر” هو الذي يجب أن يكون موضوع الإصلاح قبل إخراج النظام الأساسي.
المصدر: هسبريس