الإيسيسكو تبصم على حضور جديد بأوروبا
شددت الورقة التأطيرية للندوة الدولية، التي افتتحت أعمالها الخميس 27 يوليوز الجاري حول موضوع عنوان “ألمانيا والعالم الإسلامي.. الفهم والتطوير”، على أن “العلاقة بين العالم الإسلامي والقارة الأوروبية تشكل إحدى حلقات التفاعل الحضاري في اعتماله المتصل طوال حقبة تاريخية امتدت لما ينيف على الألف عام من الزمان”.
وتضمن برنامج الندوة، التي عقدتها منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) بالشراكة مع المعهد الألماني للحوار والتفاهم “مواطنة”، جلسة افتتاحية تحدث فيها الدكتور سالم بن محمد المالك، المدير العام للإيسيسكو، ورنا تنفير حسين، الوزير الاتحادي للتعليم الاتحادي والتدريب المهني بالوزارة الاتحادية للتعليم والتدريب المهني في جمهورية باكستان الإسلامية، وروبرت دولغر، سفير جمهورية ألمانيا الاتحادية في المغرب، وعبد الصمد اليزيدي، المدير العام للمعهد الألماني للحوار والتفاهم “مواطنة”. وأشرف على إدارة الندوة السفير خالد فتح الرحمن، مدير مركز الحوار الحضاري في الإيسيسكو.
كما تضمن برنامج الندوة عقد جلسة علمية أخرى لقراءة في كتاب “الاستشراق الألماني.. دراسة في النشأة والتطور ومجالات البحث” الذي ألفه الدكتور عبد الملك هيباوي، رئيس المجلس الألماني المغربي ورئيس قسم حوار الأديان بالمعهد الألماني للحوار والتفاهم “مواطنة”.
هذه الندوة كانت إعلانا رسميا عن مرحلة جديدة في اشتغال الإيسيسكو على ملف العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب بصفة عامة، وأوروبا خصوصا؛ هي نقلة نوعية تستند إلى الرؤية الاستشرافية المبتكرة للإيسيسكو الجديدة، التي أبدعها الدكتور سالم بن محمد المالك، وواصل بصبر وإصرار التعريف بها داخل العالم الإسلامي وخارجه منذ تعيينه مديرا عاما للإيسيسكو في شهر ماي من عام 2019، ووضع آليات تنفيذها بمنهج علمي ينطلق من الواقع ويستشرف المستقبل.
يذكر أن الإيسيسكو اشتغلت على هذا الملف منذ تأسيسها، حيث اعتنت بالعمل الثقافي الإسلامي في الغرب وسعت بتعاون مع المراكز الثقافية والجمعيات الإسلامية إلى دراسة سبل تفعيل وتطوير الواقع الثقافي الإسلامي في الغرب بما يخدم مصالح وحاجيات الجاليات والأقليات الإسلامية لحماية هويتها الحضارية؛ لكن متغيرات كثيرة داخل العالم الإسلامي وعلى المستوى الدولي دفعت الإيسيسكو الجديدة بفضل رؤيتها الاستشرافية إلى مراجعة آليات الاشتغال على ملف علاقة العالم الإسلامي بالغرب وإعادة النظر في البرامج والأنشطة المخصصة للجاليات المسلمة في الدول الغربية.
كما أدركت الإيسيسكو الجديدة أن الأقليات والجاليات المسلمة اكتسبت اليوم في معظم البلدان الأوروبية كيانا قانونيا يوفر لها إمكانات الاندماج في المجتمعات التي تعيش في وسطها على النحو الذي لا يفقدها خصوصياتها، ولا يؤثر في تركيبتها الاجتماعية التي تستند إلى الهوية الثقافية الحضارية التي تتميز بها.
ومن المتغيرات الجديدة أن إشكالية اندماج الأقليات والجاليات المسلمة أصبحت تشكل هما سياسيا يؤرق كافة الحكومات الأوربية التي يوجد على أراضيها الملايين من المسلمين، إلى درجة أن العديد من الساسة الأوروبيين الأعضاء في الأحزاب الحاكمة في أوروبا يرفضون تولي الوزارات المكلفة بالهجرة والاندماج بسبب تعقد الملفات المطروحة في أجندة هذه الوزارات، وللإخفاقات الكثيرة التي منيت بها سياسات الهجرة والاندماج في أوروبا، علما أن هذه الوزارات تحظى بميزانيات كبيرة.
ومن المتغيرات الجديدة تغلغل الجماعات المتطرفة مثل القاعدة وداعش في المجتمعات الغربية؛ مما أدى إلى حدوث أعمال إرهابية في عواصم أوروبية، وازداد بشدة الخوف من وقوع الأجيال الشابة من المسلمين في الدول الأوروبية تحت تأثير الأصوليين المتطرفين، وانتشار شعورهم بالعزلة بعدما تركت إدارة شؤونهم إلى جماعات متعصبة ومنغلقة، الأمر الذي جعل الحكومات الأوروبية تبادر بوضع برامج ورصد امكانيات مالية من أجل تنظيم وجود اسلامي «رسمي»، وتشدد الإجراءات المرتبطة بتأسيس الجمعيات والمراكز الثقافية الإسلامية.
وفي مقابل ذلك، ازداد نفوذ وتأثير أحزاب اليمين المتطرف؛ فانتشرت كراهية الأجانب، واللاتسامح الديني، والتحريض العنصري، التنظيمات لها حضورها المؤثر في برلمانات بلادها كما في البرلمان الأوروبي، وتمارس من داخل هذه المؤسسات الضغط قصد اتخاذ إجراءات ضد الأقلية المسلمة في أوروبا.
هذه المعطيات وغيرها جعلت الإيسيسكو تعتمد رؤية مغايرة لبرامج عملها السابقة في مجال العمل الثقافي الإسلامي في الغرب، وتتميز تلك الرؤية بالتجديد في الأهداف وفي آليات العمل. لقد سعت الإيسيسكو، في خطة عملها الجديدة، إلى تحقيق مجموعة من الأهداف؛ من بينها إعادة تشكيل الصورة الحضارية للإسلام والمسلمين في العالم، وتعزيز اندماج المسلمين في الدول الغربية، والإسهام عبر ثقافتهم الإسلامية في إثراء التنوع الثقافي فيها، والانفتاح على شركاء المسلمين في المواطنة والحقوق المدنية، ومخالفيهم في المعتقد والثقافة، وتجاوز الصورة النمطية التي أُلْصِقتْ بالإسلام والمسلمين، وتلك الأحكام المسبقة التي تتحكم في التعامل معهم، وتخليصهم من دعاوى الغلو والتطرف، وتبرئة ذمتهم من تهمة العنف والإرهاب، وتفعيل دور قيادات العمل التربوي والثقافي الإسلامي خارج العالم الإسلامي في تعزيز ثقافة الحوار والاحترام المتبادل، والتصدي لمظاهر التطرف والكراهية.
وعلى مستوى آليات العمل، أنشأت الإيسيسكو مركزا للحوار الحضاري في هيكلتها الإدارية الجديدة من بين أهدافه تعزيز أبرز المفاهيم الحضارية، والتسوية السلمية للصراعات، وتخفيف حدة التوترات بين الثقافات، وتعزيز الحوار وتيسيره، والمساهمة في البحث الأكاديمي، وإثراء النقاش العام بشأن السلام الدولي.
كما يسعى المركز إلى ترسيخ مفهوم الحوار الحضاري في أبعاده الدينية والثقافية، وتقديم مقترحات حلول مطورة للنزاعات ذات الأصول الثقافية والاجتماعية في العالم الإسلامي، واستيعاب تطلعات المجتمعات المسلمة خارج العالم الإسلامي.
وقد عمل المركز على تعزيز شبكة الكراسي الأكاديمية، كما قام بإصدار مجموعة من المنشورات وتنظيم العديد من المنتديات وتوقيع مذكرات تفاهم عديدة وتوثيق علاقاته مع عدد من المراكز الأكاديمية الناشطة في المجالات الحضارية والإنسانية.
يشار إلى أن انفتاح الإيسيسكو الجديدة على المجال الأوروبي، في هذه الظروف العصيبة التي تنامى فيها التطرف والكراهية، يعد مبادرة حضارية بالغة الأهمية؛ لأنها تتطلع إلى المستقبل، وستمكن الإيسيسكو من دراسة القضايا المطروحة في الوقت الحالي على صعيد العلاقة بين أوروبا والعالم الإسلامي لتوسيع مجالات التعاون فيها وتوثيق عراها، والانطلاق بها في مسارات الشراكة الاستراتيجية، لما في مصلحة الجميع، وأمن العالم وسلامه. ولا شك في أن الإيسيسكو ستعزز حضورها الحضاري القائم على التواصل مع القيادات الفكرية والثقافية والدينية والعلمية والإعلامية في دول بلجيكا وهولندا والدانمارك والسويد وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا.
المصدر: هسبريس