الإهابة بعدم القيام بشعيرة العيد : حتى لا يضحي الأبناء بآبائهم

دون الخوض في تفاصيل الدعوة الملكية التي تُهيب بالشعب المغربي بعدم القيام بشعيرة أضحية العيد لهذه السنة، فمقاصدها واضحة، وسياقات الدعوة إليها متضمنة في نص الرسالة الملكية.
قيمة الدين هي تبسيط التدين ورفع الحرج ومراعاة ظروف الناس، والاجتهاد في قراءة الواقع وفق فقه المقاصد.
جلالة الملك أدرك خطورة الجفاف وأثره على ضمان استمرارية القطيع، وأن إقامة العيد في هذا السياق الصعب لا ينفع المواطن البسيط بقدر ما يضره، ولا ينفع الكساب البسيط، ولا التاجر البسيط. بالمقابل، سيكون فرصة للربح السريع، عبر تحويله إلى صفقة لشراء الخروف الإسباني والروماني والأسترالي.
القرار الملكي مبني على فقه الواقع، والانتصار للواقع واستحضار إكراهات الواقع. الإهابة الملكية لا تعني المنع لكنها توجيه ودعوة لرفع الحرج وحماية الاقتصاد ومصالح الناس، وتقدير أوضاعهم.
إقامة الشعيرة في زمن الجفاف ستشكل تهديدًا للقطيع وما ينتج عنه من ارتفاع أثمان اللحوم طوال السنة، وهذا ضرر بالغ بكل مواطن محدود الدخل. تفاديه هو منفعة ودرء مفسدة.
قرار إيجابي لأنه منع أن يصبح العيد صفقة للاستيراد، والاغتناء على حساب البسطاء.
في سياقات العيد تصبح الوجوه متعبة، حالة من التعب العام تسري في كل مسارات الحياة الاجتماعية خلال الأيام التي تسبق العيد، وحتى تلك التي تأتي بعد العيد. أينما حللت لا شيء غير الوجوه المنهكة في الشوارع، في المقاهي، في الأزقة، في الساحات، أمام البنوك، أمام الإدارات، أمام المساجد وفي الأسواق.
السوق لا يرحم، العيد فقد طابعه الديني وتحول إلى ظاهرة اجتماعية قاسية، الأطفال لا يحتاجون إلى تبرير أو شرح لظروف الأب ومحنته، وإنما هدف واحد: كبش أملح أقرن يصلح لإنجاز سيلفي للتباهي!
سياقات العيد تتحول إلى تعب جماعي، أغلب الميسورين يغلقون هواتفهم تفاديًا للإحراج، المانح في شدة والممنوح في شدة والفلاح في شدة، والواقع ضاغط، والأطفال لا يفكرون في معادلات الواقع وتعقيداته وإنما في كبش والكثير من الصور والسيلفيات.
كل الأطراف تعيش وضعًا مأزومًا، وعيد الأضحى فقد دلالته الدينية وأبعاده الروحية، وتحول إلى فعل اجتماعي قهري وقسري بتكلفة مالية كبيرة.
اختفت كل القيم المرتبطة بعيد الأضحى؛ فأصبحنا نعيش قيمًا عكسية لقيم عيد الأضحى كما جسدها نبي الله إبراهيم، والتضحية بابنه كفعل قرباني حيث الابن قربان لله.
في أزمنة العيش تنتعش السرقات ويكثر التسول ويتم استغلال الأطفال في ذلك، في شوارعنا وأزقتنا ومقاهينا وساحاتنا العمومية مشاهد تؤذي العين، التضحية بكرامة الأطفال من أجل شراء كبش، الذي يصبح في نهاية المطاف مجرد عشرين كيلوغرامًا من اللحم، والكثير من النفايات بما في ذلك الجلود التي كانت في القديم تتحول إلى هيدورة تزين البيوت وتقام فوقها الصلوات!
ما وقع وما يقع يكشف انقلابًا مؤلمًا في قيم العيد وأبعاده، جوهر العيد أنه درس إيماني لكشف حقيقة الإيمان الشخصي المؤسس على فعل قرباني، أن العبد لا يكتمل إيمانه إلا إذا ضحى بأثمن وأعز ما يملك. هنا نستحضر كيف أن نبي الله إبراهيم ودون تفكير قرر التضحية بابنه إسماعيل، وكيف قبل الابن بقرار الأب دون تردد، لنكون أمام فعل إيماني صادق.
الإيمان يحتاج إلى تجربة إثبات، وإلى تمرين قاسي يشكل ابتلاءً، وهو جوهر قصة نبي الله إبراهيم مع ابنه إسماعيل، كيف يقبل إبراهيم أن يضحي بابنه الوحيد والذي طالما طلب الله أن يرزقه إياه. وكيف يقبل دون اعتراض أن يضحي بفلذة كبده، والذي لأجله عاتب الملائكة على تأخرهم بالبشارة، لأنه قارب على الشيخوخة وقد لا ينجب مرة أخرى.
(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ)، فكان جواب الابن إسماعيل: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).
اليوم ما يقع هو فعل معكوس للتجربة الإبراهيمية، حين ضحى إبراهيم بابنه تقربًا وطاعة لله دون تردد أو ضجر، فكانت المكافأة أن الله فداه بذبح عظيم.
اليوم نعيش تضحية مقلوبة ومزدوجة، بعض الآباء يضحون بأبنائهم ليس تقربًا وقربانًا لله، ولكن إهدارًا لكرامتهم بتحويلهم إلى أدوات فعالة للتسول.
وفي الاتجاه المعاكس، الكثير من الأبناء يضحون بآبائهم، ليس بدافع ديني ولكن بدوافع اجتماعية لا علاقة لها بالدين وقيمه، وإنما إشباعًا لرغبات صنعتها اقتصاديات السوق.
جلالة الملك يهيب بالشعب المغربي أن يحيي عيد الأضحى إن شاء الله وفق طقوسه المعتادة ومعانيه الروحية النبيلة، وما يرتبط به من صلاة العيد في المصليات والمساجد، وإنفاق الصدقات، وصلة الرحم، وكذا كل مظاهر التبريك والشكر لله على نعمه مع طلب الأجر والثواب. وهو تحرير لشريعة روحانية جوهرها قائم على أن الطريق إلى الله يكون بالتضحية بأغلى ما يملك الإنسان (القربان) وليس التمسك بقيم صنعتها العولمة ومجتمع الاستهلاك والتباهي.
الدين في جوهره هو القدرة على مقاومة الجسد واغراءاته، مما يعني ممارسة فعل الصيام، وتوظيف الإمساك كسلاح مضاد لقيم العولمة، التي استطاعت نقل منطق السوق إلى المجال الديني وترسيخ سلوك تديني مبني على الاستهلاك الشره.
أسوأ ما أنتجت العولمة ديكتاتورية السوق وتقديس الاستهلاك، والنتيجة أن يفقد عيد الأضحى قدسيته وقيمه السامية باعتباره لحظة للتفكير في جوهر الدين باعتباره تضحية وليس مجرد أضحية.
وأسوأ الأسواق هو السوق السوداء حين يصبح الجشع هو قانون السوق كما وقع مع السردين.
العولمة جعلت المؤمن زبونًا، وتصر على أن تقدم له أفضل الخدمات وأسرعها، والهدف أن يكون راضيًا مرتاحًا في كسله العقائدي دون تفكير، حتى لا يستطيع الفعل الإيجابي من أجل التعامل مع واقع صعب.
إن التدين الشعبي هو ثمرة منتج الصمت والقبول الساذج دون أي نقاش أو تحليل، لكن مع فورة الثورة الرقمية وتوفير مساحات للحرية والانفلات من الواقع، أصبح النقاش في أمور الدين متاحًا حتى لمن يعيش جهلًا مقدسًا بتعبير روا، لعل حجم التدوينات التي تعاملت مع القرار الإهابة بالكثير من السخرية من الفلاحين والتشفي فيهم يكشف حجم الأعطاب أن يصبح النقاش متاحًا للجميع.
المصدر: العمق المغربي