“الإرهاب الإيكولوجي” .. “الاحتجاج الأخضر” يتحول إلى تطرف في الدول الغربية
قال محمد بوشيخي، كاتب وباحث مغربي، ومتخصص في الحركات الإسلامية، إن “أشكال الاحتجاجات المنظمة لحماية البيئة ومقاومة الاحتباس الحراري تنوعت في السنوات الأخيرة بين حملات التوعية والتعبئة والمظاهرات السلمية، قبل أن تتطور إلى أشكال صدامية تجلت في اقتحام المواقع الملوِثة للبيئة، وقطع الطرقات، وغيرها من الأعمال العنيفة في الدول الغربية”.
وأكد بوشيخي، في مقال نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أنه “على الرغم من اهتمام أحزاب يسارية غربية بقضايا البيئة منذ سبعينيات القرن الماضي، فإن السياسات الرسمية لم تتكيف مع مستلزمات التطور البيئي لضمان الاستجابة الضرورية لارتفاع مستوى سطح البحر وتراجع التنوع البيولوجي، بل سلك بعضها مساراً تراجعياً”.
وتطرق الكاتب المغربي، في مقاله المعنون بـ”مخاطر تحول ‘الاحتجاج الأخضر’ إلى تطرف بالدول الغربية”، لمجموعة من المحاور من بينها “الإرهاب الإيكولوجي”، و”الاجتهاد القضائي”، و”الالتزام العلمي”، و”مستقبل الاحتجاج”.
وهذا نص المقال:
شهدت السنوات الماضية ازدهار نوع جديد من الاحتجاجات المنظمة، لحماية البيئة ومقاومة الاحتباس الحراري، تنوعت أشكالها بين حملات التوعية والتعبئة والمظاهرات السلمية، قبل أن تتطور إلى أشكال صدامية تجلت في اقتحام المواقع الملوِثة للبيئة، وقطع الطرقات، وغيرها من الأعمال العنيفة في الدول الغربية.
وعلى الرغم من اهتمام أحزاب يسارية غربية بقضايا البيئة منذ سبعينيات القرن الماضي، فإن السياسات الرسمية لم تتكيف مع مستلزمات التطور البيئي لضمان الاستجابة الضرورية لارتفاع مستوى سطح البحر وتراجع التنوع البيولوجي، بل سلك بعضها مساراً تراجعياً، كما حدث في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي أنكر حقائق علمية حول المناخ وانسحب من اتفاقية باريس عام 2017.
واشتد حرص الخبراء على دق ناقوس الخطر منذ عام 1988 حين أشعر عالم المناخ الأمريكي جيمس هانسن، الكونغرس ببدء الاحتباس الحراري. كما اشتد كفاح الجمعيات البيئية، مثل “أوقفوا النفط” في إنجلترا و”فعل غير عنيف كوب 21″ في فرنسا و”الجيل الأخير” في ألمانيا، وعمقت استفادتها من تجارب دولية وبحوث علمية لتقويم سلوكها الاحتجاجي مثل الحركات النسوية والحركات التحررية لمهاتما غاندي، ومارتن لوثر كينغ، وكتابات إيريكا تشينويث، وهنري ديفيد ثورو، وإيدموند بورك، وصار لها رموز نضالية خاصة مثل ناشطة المناخ السويدية جريتا ثونبرغ.
وأمام تشدد نشطاء البيئة، الذي وصل ببعضهم لحد حرق أنفسهم مثل وين آلان بروس عام 2022 وقبله ديفيد باكل عام 2018، وتزايد حدة نبرتهم في مخاطبة السلطات، صار البعض يصفهم بـ”الخمير الخضر”؛ في إشارة إلى جرائم “الخمير الحمر” التي أودت بحياة حوالي خُمس سكان كمبوديا خلال السبعينيات، فيما اتهمهم آخرون بالانحراف نحو “الإرهاب الإيكولوجي” (ecoterrorism)، بالرغم من حرص النشطاء على تجنب العنف الجسدي ضد الأبرياء. وهو ما يثير التساؤل عن أسباب تحول بعض حركات المناخ والبيئة إلى التطرف في الغرب، مثل الاتهامات الموجهة لحركة “الجيل الأخير” في ألمانيا بالتطرف واستهداف منشآت في البلاد، على نحو دفع رجال الشرطة في 24 مايو 2023 إلى تفتيش عقارات لهذه الحركة في 7 ولايات ألمانية.
الإرهاب الإيكولوجي:
صاغ الكاتب الأمريكي رون أرنولد، مفهوم “الإرهاب الإيكولوجي” في عام 1983، لتوصيف أشكال احتجاجية دأبت على ممارستها حركات بيئية متطرفة منذ الستينيات، حيث لم تقف عند الإخلال بالنظام العام، وإنما امتدت إلى الإتيان بأفعال تهدد السلامة الجسدية للأشخاص وتُلحق الضرر البالغ بممتلكاتهم. وكان منها جمعية (Band of Mercy) التي أسسها في إنجلترا روني لي، عام 1973 لامتعاضه من الطرق التقليدية لجمعية (Hunt Saboteur Association) التي كان أحد نشطائها، فاستحدث طرقاً غير مشروعة مثل تدمير المركبات التي تنقل الحيوانات المُعدة للتجارب وحرق مختبرات التشريح، وتم حل الجمعية عام 1974 واُعتقل عدد من نشطائها منهم مؤسسها.
وخلال هذه الفترة، ظهرت رواية (The Monkey Wrench Gang) لإدوارد أبي، عام 1975، التي ألهمت حسب شهادة بعض الكتابات الحركات البيئية المتطرفة من خلال تناولها قصة نشطاء أمريكيين تصدوا لحماية الطبيعة بتخريب الجرافات والقطارات فسقطوا في ممارسة أعمال عنف خطرة. إذ تبنَّت تحت تأثير الرواية جمعية “جبهة تحرير الحيوان” التي أطلقها روني بعد خروجه من السجن في أواسط السبعينيات، وجمعية “جبهة تحرير الأرض” التي تأسست عام 1992، عمليات تخريب بقنابل تقليدية خلفت أكثر من مليون دولار من الخسائر. كما انزلقت جمعيات أخرى نحو ممارسات إرهابية، منها “قوة الحياة البيئية” في الولايات المتحدة عام 1977، وجمعية “مليشيا حقوق الحيوان” التي أرسلت عام 1982 طروداً ملغومة لمسؤولين بريطانيين منهم رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر، ما تسبب في حروق لمدير مكتبها.
بيد أن غالبية الجمعيات انتهت، بالتزامن مع بدايات الوعي الحكومي بمشاكل البيئة، إلى التنبه لأهمية الحراك المدني في حشد الرأي العام وإجبار الحكومات على الانصياع لالتزاماتها الدستورية والدولية بشأن البيئة، فتحصنت من مخاطر العنف بفعل استرشادها بكتابات نقدية وتنظيرية دون فقدان الصرامة في قضيتها، وبذلك طورت مقاربة تمييزية بين “الراديكالية” (radicalism)، والتطرف (extremism).
و”الراديكالية” هي فعل مطلوب للضغط على السلطات بأدوات ليست دائماً قانونية لكنها لا تستخدم العنف، وهنا أوضح الناشط السويدي أندرياس مالم، في كتابه الصادر عام 2021 بعنوان (How To Blow Upa Pipeline)، أن جميع الحركات الاجتماعية نجحت في مهامها بتبنيها لقدر من الراديكالية، لذا أوصى بامتلاك جناح راديكالي يفرض على الحكومات الاستجابة لمطالب جناحها المعتدل. كما تُعد “الراديكالية” رد فعل على “تطرف” الدولة التي تفرض الأمر الواقع بأدوات الإكراه، فضلاً عن أنها “ترياق” يحمي الغاضبين من استخدام العنف. وبهذا المنطق، احتجت الناشطة الفرنسية فلورا غبالي، ضد وزير داخلية بلادها، يوم 5 نوفمبر 2022، بالقول: “نحن بحاجة إلى الراديكالية لتجنب التطرف”، شارحة أن “الراديكالية تستهدف معالجة السبب الجذري لما نريد تعديله، بينما التطرف يعني نزوع الشخص الذي تتملكه الأفكار العنيفة في النضال السياسي”. وفي خضم هذه النقاشات وباستحضار هاجس “الإرهاب الإيكولوجي”، أخد نضال النشطاء يندرج ضمن “العصيان المدني” بناءً على أسبقية الأخلاق على القانون.
ويميز النشطاء في سياق الدفاع عن شرعية نضالهم بين العمل “القانوني” والعمل “الأخلاقي” بالرغم من اشتراكهما معاً في الشرعية. فالعمل “القانوني” يستمد شرعيته من احترام القانون، أما العمل “الأخلاقي” فيستمدها من المصلحة العامة. وبالتالي ينظر النشطاء إلى شرعية أعمالهم الاحتجاجية من زاوية القيم النبيلة لاستنادهم إلى قراءات فلسفية للعدالة مثل مؤلفات جون رولز، التي تردد صداها أخيراً في أحكام قضائية وتقارير علمية برَّرت العصيان المدني وزكته.
الاجتهاد القضائي:
حدث تطور مهم وسريع للاجتهاد القضائي، في اتجاه تأكيد مسؤولية السلطة القضائية عن انتهاك العدالة البيئية. فكان الحكم الصادر عن محكمة لاهاي المحلية عام 2015، بإلزام الدولة بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة 25% بحلول 2020 مقارنة بعام 1990، من أولى الاجتهادات التي ألهمت القضاة عبر العالم وشجعت على استدعاء القضاء ضد تقاعس الدولة أحياناً. فوفقاً لتقرير صادر عن “برنامج الأمم المتحدة للبيئة” في يناير 2021، وصل عدد الدعاوى المتعلقة بالبيئة عام 2020 إلى 1550 دعوى في 38 دولة، أي زاد العدد بمقدار الضعف تقريباً عن عام 2017 حيث رُفعت حينها 884 دعوى قضائية في 24 دولة.
وفي ترسيخ لهذا التطور، برَّأ قاضٍ في مدينة ليون الفرنسية، يوم 16 سبتمبر 2019، ناشطين من “سرقة” صورة لرئيس البلاد من إحدى البلديات، واعتبر أنه من المشروع إنزال صورة الرئيس احتجاجاً ضد سياسته البيئية لتعلق الأمر بـ”حالة ضرورة” و”دافع مشروع”. كما وظف القاضي مفردات قوية أجازت للمواطنين اختبار أشكال مبتكرة في “إطار واجب اليقظة”، وقلَّلت من شأن سرقة “شيء رمزي” مقارنة بخطر “المناخ على البشرية”، بل فسر إزالة الصورة من دون ترخيص “كبديل ضروري عن غياب الحوار بين الرئيس والشعب”.
وهذا الحكم القضائي، الذي احتفى به النشطاء، يأتي في سياق دولي يتسم بالاصطفاف ضد الحكومات من السلطات القضائية وإصدار عقوبات مخففة بحق النشطاء. وفي هذا الصدد، أدانت المحكمة الإدارية في باريس، في فبراير 2021، الحكومة الفرنسية لفشلها “غير المشروع” في خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، الأمر الذي يعزز توجه الاجتهاد القضائي نحو توفير الحصانة لاحتجاجات النشطاء حين يتعلق الأمر بخطر وجودي يحدق بمستقبل البشرية.
الالتزام العلمي:
من وحي “الواجب الأخلاقي”، التزم خبراء بيئيون بالدفاع عن “الخيارات النضالية” للنشطاء بما في ذلك العصيان المدني لتحقيق مكاسب إيكولوجية. فلم يعد العلماء مقتنعين بوظيفة نقل الحقيقة وإصدار التوصيات ثم التزام الحياد تجاه المواقف الخلافية، وإنما أصبحوا أكثر حرصاً على تنفيذ توصياتهم سواءً بمساءلة السلطة، كما فعل 338 عالماً، يوم 7 أكتوبر 2021، بتذكير الرئيس الأمريكي جو بايدن بتناقض سياسة إدارته حيال الوقود الأحفوري مع مواقفه أثناء الحملة الانتخابية حين تعهد بـ”الاستماع للعلم” واعتبر التغير المناخي “تهديداً وجودياً”. أو بطرق مستحدثة صارت أكثر جرأة مثل توصيات دومينيك بورغ، في كتابه الصادر عام 2021 بعنوان “العصيان من أجل الأرض، دفاع في حال ضرورة”، ودعوة ثلاثة علماء في مقال بمجلة “Nature climat Change”، يوم 29 أغسطس 2022، زملاءهم بصفتهم أقدر على تقدير تكلفة التغير المناخي “على المخاطرة بالاعتقال وارتكاب أعمال عصيان مدني للضغط على الحكومات لاتخاذ إجراءات أسرع وأكثر فاعلية بشأن أزمة المناخ”. وهو ما تُرجم عملياً، يوم 6 إبريل 2022، بخروج ما يناهز 1000 عالم، في أكثر من 25 دولة، واعتقال الكثير منهم على خلفية عصيان مدني استهدف المؤسسات الحكومية والعلمية والشركات، إذ بات الأمر يتعلق بحركة عالمية تُعرف بـ”تمرد العلماء” لها امتدادات عالمية وهيئات تنسيقية وموقع إلكتروني وبرامج عمل.
وبدعم فعلي من العلماء المختصين، تم تأسيس كيانات تنظيمية تتولى الدفاع عن البيئة وتوفر مظلة “علمية” للعصيان المدني لنشطائها، مثل جمعية “تمرد ضد الانقراض” التي تأسست في لندن عام 2018، كحركة اجتماعية ذات تنظيم أفقي ومن دون قيادات هرمية، تحتضن خبراء من مختلف دول العالم، وقد نجحت في إجبار البرلمان البريطاني على التجاوب مع مطالبها ليكون، ابتداءً من 1 مايو 2019، أول مؤسسة تشريعية في العالم تقر “حالة الطوارئ المناخية”.
مستقبل الاحتجاج:
على الرغم من التقدم الحاصل في مقاربة الدول للتغير المناخي، فإنه لم يمنع النزعة للعنف من الانتعاش في الغرب لدى الشباب المتحمس والأقل تقديراً للعواقب الوخيمة للعنف، وخاصة في الجمعيات الحديثة مثل “تمرد ضد الانقراض” (Extinction Rebellion) و(Ronce)، خلافاً لنظيراتها القديمة مثل “منظمة السلام الأخضر” (Greenpeace) و”الصندوق العالمي للطبيعة” (WWF).
إذ يؤيد حوالي نصف الشباب، حسب الاستبيانات الاستقصائية، إحداث خسائر مادية أثناء الدخول في عصيان مدني، كما كشف تحقيق نشرته مجلة (Challenges) في أكتوبر 2021 أن ثُلث الفرنسيين تقريباً، منهم 47% من الشباب بين 18 و24 سنة، أبدوا تفهمهم لاستخدام العنف ضد قرارات تَضُر بالبيئة، صادرة عن الحكومة أو الهيئات المنتخبة.
وبالتالي فإن فشل العصيان المدني في تحقيق مكتسبات فعلية قد يُفقد الجمعيات البيئية في الدول الغربية السيطرة على شبابها الميال للتصعيد، خاصة أن بعضهم لم ينضم إليها إلا لسخطه ضد “أحزاب الخضر” في العديد من دول العالم. غير أنه من المستبعد استمرار الحكومات في تجاهل المطالب البيئية أمام تزايد طرحها التدريجي كقضية رأي عام وتعزيز التوجهات الحديثة للاجتهادات القضائية والشخصيات العلمية في التصدي للسياسات الرسمية، وكذا تنامي توجه دولي ضاغط نحو إلزام الدول “أخلاقياً” بتحمل مسؤولياتها البيئية، وهو ما تعزز أخيراً بصدور قرار أممي يوم 29 مارس 2023، يطلب من محكمة العدل الدولية التدخل بشأن مكافحة الاحتباس الحراري.
المصدر: هسبريس