الإذلال الإسرائيلي لأمريكا.. نحو فهم مقنع للعلاقة غير الطبيعية!
يثير تنبه المتابع قمة العجز الأمريكي تجاه (إسرائيل) في اتخاذ مواقف صارمة ضد حكومة الاحتلال، مقابل قمة الإذلال الذي يتعرض له البيت الأبيض من قبل هذه الحكومة التي تبطش بالأطفال والنساء والشيوخ في غزة، وتضرب عرض الحائط كل القانون الإنساني الدولي، وتعربد على الأمم المتحدة، وتتحدى كل مواقف البيت الأبيض وترمي بها في سلة المهملات. بل إن الرئيس الأمريكي جو بايدن مهدد، بشكل كبير، أن يخسر الانتخابات القادمة بسبب مواقفه المتماهية مع حكومة الاحتلال الصهيوني التي يقودها اليمين الصهيوني المتطرف. فما سر هذا الإذعان الأمريكي الأعمى لدولة الاحتلال؟ ولماذا تعجز الولايات المتحدة عن إرجاع (إسرائيل) لبيت الطاعة الأمريكي بوقف بعض المساعدات المالية أو العسكرية؟
كثيرا ما تم تفسير العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بالعامل الاقتصادي. ويزعم أصحاب هذا التفسير أن العلاقة الوطيدة بين أمريكا وإسرائيل سببها الاقتصاد. ومن وجهة نظر هؤلاء فإن الولايات المتحدة الأمريكية تدعم إسرائيل للحفاظ على مصالحها الاقتصادية في المنطقة العربية وخصوصا ضمان التحكم في النفط الخليجي، وضمان عدم قيام وحدة عربية. لكن هؤلاء لم يجبوا عن السؤالين: أليس قطع أمريكا لعلاقاتها مع إسرائيل هو الطريق الأقصر لضمان النفط العربي بالنظر إلى العداء التاريخي بين العرب وإسرائيل والذي أدى إلى حرب 73 ؟ أليس الإجرام الصهيوني في حق الشعب الفلسطيني بالضفة وغزة هو ما يوحد العرب جزئيا؟
إذا رصدنا العلاقة بين الولايات المتحدة و(إسرائيل) اقتصاديا فإننا نجد أن هذه الأخيرة هي أكبر مستفيد من مجموع المساعدة الاقتصادية والعسكرية المباشرة من الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، وكانت أكبر متلق سنوي منذ سنة 1976 حتى 2003 إذ منذ بداية الحرب على العراق في العام 2003 ، تجاوز العراق إسرائيل بوصفها أكبر متلق للمساعدات الأميركية السنوية. (انظر موسوعة ويكيبيديا http://www.usaid.gov/iraq/) . واليوم تعود إسرائيل لتحتل الرتبة الأولى وبفارق بعيد، وخصوصا بعد السابع من أكتوبر 2023، وتتقلص المساعدات الأمريكية لأكرانيا. وقد قام الباحث المغربي مصطفى الحيا بإحصاء الديون الأمريكية فوجدها تعادل ما تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية من مساعدات لإسرائيل. وكلنا يتابع شعارات المظاهرات الشعبية اليومية في الولايات المتحدة الأمريكية التي تتهم البيت الأبيض بصرف أموال دافعي الضرائب الأمريكيين على الإبادة الجماعية التي ترتكبها قوات جيش الاحتلال في غزة.
إن ما تقدم يحتم على المتتبع البحث عن تفسير آخر لهذه العلاقة الأمريكية الإسرائيلية غير الطبيعية لفهم السبب بشكل أكثر إقناعا، لأن العامل الاقتصادي غير مقنع.
يشير بعض الباحثين إلى أن العنصر الديني في العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل عنصر حاسم في تفسير هذه العلاقة الوطيدة وغير الطبيعية التي تخسر فيها أمريكا كثيرا اقتصاديا وسياسيا وحتى على مستوى سمعتها كدولة تدعي رعاية الديمقراطية وحقوق الإنسان في ظل الانتهاكات الإسرائيلية الواضحة لحقوق الفلسطينيين بشهادة منظمات دولية وتقارير مراقبين حقوقيين، وهي الانتهاكات التي وصلت حد الإبادة الجماعية في الحرب الشعواء التي يشنها جيش الاحتلال الصهيوني على قطاع غزة من الثامن من أكتوبر 2023 إلى الآن بشهادة محكمة العد الدولية التي فرضت على هذا الكيان المجرم مجموعة من التدابير العاجلة التي تقلص من خطر ارتكاب إبادة جماعية بغزة.
وفي هذا الإطار يؤكد المفكر المغربي المقرئ الإدريسي أبو زيد في العديد من المحاضرات أن الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل يرجع إلى النبوءة الدينية الخرافية التي يؤمن به اليمين والمحافظون بأمريكا والبروتستانت عموما والمتعلقة بأن نزول المسيح مرتبط بقيام ” إسرائيل الكبرى”، وأن جل الرؤساء الأمريكيين يدعمون الصهاينة إيمانا منهم بأن ذلك هو خدمة وإرضاء للرب، ويستشهد بمذكرات كارتر وغيره من الرؤساء الامريكيين التي يؤكدون فيها أن دعم إسرائيل أمر ديني.
نستدل هنا بما صرح به الرئيس الأمريكي السابق “جيمي كارتر” أمام الكنيست الإسرائيلي سنة 1979م قائلا في خطابه: “إن علاقة أمريكا بإسرائيل أكثر من علاقة خاصة، لقد كانت ولا تزال علاقة فريدة، وهي علاقة لا يمكن تقويضها؛ لأنها متأصَّلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكي” ( د . راغب السرجاني : أثر الدين على رؤساء امريكا) . وفي خطاب للرئيس السابق”رونالد ريجان” عند زيارته للمنظمة اليهودية “بناي برث” أثناء حملته الانتخابية في واشنطن قال : “إن إسرائيل ليست أمة فقط، بل هي رمز؛ ففي دفاعنا عن حق إسرائيل في الوجود، إنما ندافع عن ذات القيم التي بُنيت على أساسها أمتنا. ( د . راغب السرجاني : أثر الدين على رؤساء امريكا). ويضيف السرجاني في مقال له: ” في السبعينيات زادت الحركة الدينية نشاطًا في أمريكا، وظهر ما يُعرف بالكنائس التليفزيونية، التي نشرت فكرًا دينيًّا عند عموم الشعب الأمريكي، كما ازدادت الطوائف الأصولية قوة، وذلك مثل الطائفة المعمدانية (Baptist)، والطائفة المنهجية (Methodist)، بل نما جدًّا تيار “المسيحيين المولودين من جديد” (Born Again Christians)، وهو أكثر التيارات المسيحية اعتقادًا في مسألة قدسية اليهود وعصمتهم” (http://islamstory.com/ar راغب السرجاني). وهو ما عززه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن عندما صرح أنه “متوجه إلى إسرائيل بصفته يهوديا” عشية انطلاق حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة.
ويشير الباحث المغربي ” سعيد مولاي التاج” الى أنه على الرغم من أن الدستور الأمريكي يعتبر نظام الحكم في الولايات المتحدة نظاما “علمانيا” لا يتبنى ديناً معيناً في الدولة أو الحكومة بحكم التنوع العرقي والديني وحتى الطائفي والمذهبي، إلا أنه من المعلوم أن الشعب الأمريكي في معظمه شعب بروتستانتي متدين يشترك في خلفيته الدينية إلى حد بعيد مع العقيدة اليهودية التلمودية ويضيف الباحث ذاته أنه في مؤتمر إيباك المنعقد في مارس سنة 2010 شارك خمسون من القيادات الإنجيلية الأميركية الوازنة والمؤثرة في السياسة (غاري بوير، وجيري فالويل، ورالف، وديك آرمي، وتوم ديلاي)، وقد خصص المؤتمر جزء من أشغاله لمحور صار قارا في جدول أعماله منذ سنوات دعم المسيحية الصهيونية لـ”إسرائيل” في حلقة عنوانها “أصدقاء في الدين” تبحث “جذور المسيحية/الصهيونية، وتبحث عن أجدى السبل التي يمكن من خلالها للمسيحيين المؤيدين لـ”إسرائيل” واليهود العمل معا في الميدان السياسي لتعزيز أمن إسرائيل”. فأغلب البروتستانت عموما وخاصة الإنجيلين منهم يرون في عودة اليهود إلى فلسطين استكمالا للنبوءات الدينية المسيحية، ويعتبرون قيام دولة “إسرائيل” علامة من علامات القيامة، فـ”مملكة صهيون” عقيدة يشارك البروتستانتيون المنكبون على تلاوة التوراة اليهود فيها.
إن هذه العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل القائمة على الخلفية الدينية باعتبارها المحدد الرئيس لسياسة واشنطن تجاه الدول العربية، هي العنصر الحاسم في تحديد تحالف الولايات المتحدة الأمريكية مع هذه الدول. وتبقى الأمور الاقتصادية مجرد تفاصيل يمكن موقعتها في إطار الاستراتيجية الأمريكية لإدارة الصراع، ومواصلة سياسة تقسيم الدول العربية والإسلامية.
هكذا يمكننا فهم هذه العلاقة غير الطبيعية بين الولايات المتحدة الأمريكية و(إسرائيل)، وهي العلاقة التي يخسر فيها ساسة الغرب عموما شعوبهم، ويؤسسون لجيل غربي جديد ينبذ دويلة الاحتلال، ويرى أن وضع حد لمشكلات الشرق الأوسط يتطلب تفكيك (إسرائيل) إرجاع أرض فلسطين لصاحبها الشرعي الشعب الفلسطيني.
المصدر: العمق المغربي