تظهر ظلالهم كل صباح يشدون الرحال إلى “لافيراي” وإلى الأسواق الشعبية، في زوايا المدن الهامشية كما في كبريات الحواضر، مثلما يشد الحالمون الرحال إلى مناجم الذهب والفضة.

هم صيادو “الهموز” وسط المتلاشيات والخردة، سلاحهم أياد اعتادت نبش الحديد والبلاستيك والأجهزة الإلكترونية والتحف الفنية؛ فالبحث عن الهمزة بالنسبة لهؤلاء ليس مجرد عادة، بل هواية تستهوي محترفي اقتصاد خفي في عالم بلا أوراق ولا فواتير فقط الكثير من الخبرة وضربة حظ.

منهم من يتجول بين “التشاطارا” لشراء منتج بثمن بخس وإعادة بيعه، وآخرون يقصدون المتلاشيات والخردة والأسواق الشعبية مساهمين في اقتصاد بيئي بدائي لا تعترف به السياسات، على أمل العودة بغنيمة أو بخيبة صامتة.

تعبير سوسيولوجي

محمد بن عيسى، دكتور باحث في علم الاجتماع، اعتبر إقبال المواطنين، لاسيما المنتمين إلى الطبقتين الوسطى والدنيا، على الأسواق العشوائية والشعبية بحثا عن الخردة والمتلاشيات تعبيرا سوسيولوجيا عن مظاهر الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها جزء واسع من المجتمع المغربي.

وأورد بن عيسى، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن ارتفاع أسعار السلع وتراجع القدرة الشرائية يحولان هذه الأسواق إلى آلية بديلة لمقاومة الفقر والانحدار الاجتماعي؛ ما يجعل من هذه الممارسات ضرورة يومية أكثر منها اختيارا.

وأضاف الباحث المتخصص في علم الاجتماع أن هذه الظاهرة تشكل جزءا من اقتصاد غير مهيكل يقوم على إعادة تدوير السلع خارج القنوات الرسمية، سواء في أسواق مادية غير منظمة أو عبر وسائط رقمية تتيح التبادل والتسويق بشكل غير رسمي.

وشدد المتحدث عينه أنه على الرغم من عدم اعتراف المؤسسات الرسمية بهذا النشاط فإن هذا الاقتصاد الموازي يسهم بشكل فعلي في توفير فرص الشغل وتدبير الحياة اليومية لفئات واسعة من المواطنين.

استدرك محمد بن عيسى بالقول إن “هذه الظاهرة لا تقتصر على بعدها الاقتصادي فحسب؛ بل تنطوي أيضا على تمثلات ثقافية متجذرة في المخيال الجمعي المغربي”، مبرزا أن “الإقبال على هذه الأسواق يعاش أحيانا بوصفه “رحلة صيد” أو مغامرة للظفر بـ”الهمزة”، والتنقيب عن سلع نادرة أو مفيدة بثمن زهيد، أشبه ما تكون بـ”الكنز المدفون”.

وأورد الباحث في علم الاجتماع أن هذا التصور يعيد إحياء رمزية الكنز في الثقافة الشعبية المغربية، حيث يرتبط الكنز بالمجهول وبالحظ وبالتدخل الغيبي أحيانا. وهكذا، تنتقل صورة الكنز من مجالها الميتافيزيقي الغيبي إلى المجال الاقتصادي الواقعي، لتعبر عن نزعة للبحث عن القيمة وسط الفوضى، وعن أمل شعبي في تجاوز القيود المادية من خلال الذكاء والحيلة، أو حتى “ضربة حظ في السوق.

سوء الاندماج

علق الدكتور كمال الزمراوي، أستاذ علم النفس بجامعة القاضي عياض بمراكش، على ظاهرة البحث عن الأشياء الثمينة في عالم المتلاشيات، معتبرا إياها ظاهرة ملموسة في مجتمعنا، كما في مجتمعات أخرى، وهي ليست بظاهرة حديثة العهد؛ بل لها جذور ضاربة في القدم.

وأوضح الزمراوي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن هذه الظاهرة ترتبط إلى بجملة من المتغيرات، لا سيما الاقتصادية، حيث إن أغلب المقبلين عليها ينتمون إلى فئات اجتماعية تعاني من الفقر ولم تستطع تحقيق اندماج مهني سليم كباقي الفئات الأخرى.

وشدد المتحدث ذاته على أن سوء الاندماج دفع بهذه الفئات إلى البحث عن حلول بديلة، منها البحث في المتلاشيات عن أشياء ثمينة، وهي الظاهرة المعروفة في التداول الشعبي بـ”الهمزة”، مشيرا أن هذه “الهمزة” جاءت تحت وطأة الإكراه لتعويض “الهمزة” المفقودة المتمثلة في فرصة عمل نظامية تضمن للفرد الاستقرار الاجتماعي والنفسي.

وقال أستاذ علم النفس إن من أبرز الأمثلة على القريبة من هذه الظاهرة ما يُعرف بـ”البوعارة” أو “الميخالة”؛ وهما تسميتان شعبيتان تدلان على من ينقبون في القمامة أو المتلاشيات بحثا عن مواد يمكن بيعها أو الاستفادة منها.

ولفت المتحدث ذاته الانتباه إلى أن المثير في الأمر هو وجود فئة اجتماعية لا تعاني كثيرا على المستوى الاقتصادي، ومع ذلك تنخرط هي الأخرى في البحث بين المتلاشيات عن أشياء ثمينة، وزاد متسائلا: “ما الدافع إلى هذا السلوك إذا لم يكن مرتبطا بالمتغير السوسيو اقتصادي؟ ليجيب بالقول إن “هذا التساؤل يجب أن يكون منطلقا إشكاليا لدراسات علمية سيكولوجية وسوسيولوجية قصد بناء رؤية شمولية وموضوعية تساعد على فهمها بشكل أعمق”.

المصدر: هسبريس

شاركها.