«مطاحن تطحن الأوراق وتبيعها دقيقًا للمغاربة!» هذا التصريح أدلى به أحد البرلمانيين وانتشر على الفور عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مثيرًا استنكارًا وصدمةً واسعة. مثل هذه التصريحات، في إطار المسؤولية العامة، يجب أن تؤدي عادةً إلى فتح تحقيق قضائي أو إحالتها على لجنة برلمانية لتقصي الحقائق لتنوير الراي العام الوطني و ترتيب المسؤوليات و الجزاءات .
و قد تزامنت هذه التصريحات مع العديد من التدوينات و مقاطع فيديوهات على شبكات التواصل الاجتماعي تشكك في جودة الأغذية وسلامتها و تعلن عن تحذيرات عن احتواء بعض أنواع الجبن على مواد مسرطنة، وتداول أخبار عن بيع دواجن مريضة غير صالحة للاستهلاك عبر قنوات غير قانونية مما أدى إلى تضخم حالة القلق بين المواطنين وترسيخ أزمة الثقة في منظومة الرقابة.
و يتجاوز هذا الجدل حدود المغرب، إذ أصبح الاهتمام بالأمن الغذائي قضية عالمية على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يشارك المستخدمون حول العالم تحذيرات ومعلومات عن سلامة الأغذية، وتتناولها وسائل الإعلام بشكل واسع، مما يعكس زيادة وعي المجتمع بخطورة الأغذية غير الآمنة وأهمية الرقابة العلمية الدقيقة.
و في هذا السياق، يبرز السؤال المركزي: كيف يمكن للمغرب ضمان سلامة الأغذية وحماية صحة المواطنين في ظل انتشار المعلومات والادعاءات المثيرة للقلق؟ وما هي المسؤوليات القانونية والتنظيمية والمؤسساتية ا تجاه هذه الظاهرة؟ وكيف يمكن للدولة والمجتمع المدني والإعلام تعزيز ثقة المواطنين؟ وما هي الدروس المستفادة من التقارير الوطنية حول الأمن الغذائي ؟
أن الفهم الكامل اموضوع الأمن الغذائي يتطلب التوقف عند الإطار التشريعي المرتبط بحماية المواطن و مسؤوليات و ادوار مختلف المؤسسات المؤتمنة على ضمان الصحة الغذائية و استحضار مضامين خلاصات و توصيات التقارير الوطنية الصادرة حول الموضوع.
يمتلك المغرب ترسانة قانونية هامة تهدف إلى حماية صحة المواطنين وضمان سلامة الأغذية بدءا بالدستور المغربي الذي يضع الأمن الغذائي ضمن الحقوق الأساسية. فالمادة 20 تؤكد أن “حق الحياة هو الحق الأول لكل إنسان، والقانون يحمي هذا الحق”، فيما تنص المادة 21 على حق الشخص في الأمن الشخصي وحماية ممتلكاته، وتلزم السلطات بضمان سلامة السكان والإقليم. كما تؤكد المادة 31 على التزام الدولة والمؤسسات العمومية بتعبئة كل الوسائل لضمان الحقوق الأساسية للمواطنين، بما فيها الحق في غذاء آمن وبيئة صحية.
وإلى جانب الدستور، يعتمد المغرب على قوانين قطاعية أساسية مثل قانون السلامة الصحية للمنتجات الغذائية رقم 2807 الصادر في 11 فبراير 2010، الذي يحدد مسؤوليات الجهات الرقابية ويمنع تسويق أي منتج يشكل خطرًا على صحة المستهلك، وقانون حماية المستهلك رقم 3108 الصادر في 18 فبراير 2011، الذي يكفل الحق في الحصول على معلومات دقيقة عن المنتجات ويضمن التعويض في حال تعرض المستهلك لأي خطر صحي.
و رغم توفر هذا الاطار القانوني، يواجه المغرب عدة تحديات تجعل من التطبيق الفعلي لهذه القوانين أمرًا صعبًا، أبرزها عدم مواكبة النصوص القانونية للتطورات الحديثة في القطاع الغذائي، بما يشمل التجارة الإلكترونية والمنتجات غير الرسمية، وضعف التنسيق بين الجهات المعنية مما يؤدي أحيانًا إلى ازدواجية أو فراغات في الرقابة، ونقص التتبع الرقمي والشفافية في مراقبة المنتجات وسحبها عند الضرورة، مما يحد من قدرة المستهلك على اتخاذ قرارات سليمة. كما يعاني الإطار القانوني من قصور في الموارد البشرية والمادية للأجهزة الرقابية، مما يضعف قدرتها على تغطية جميع مناطق المملكة والتدخل السريع في الحالات الطارئة.
كما يتوفر على عدة مؤسسات لحماية الامن الغذائي. فالمكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية يتحمل المسؤولية الأساسية في الرقابة على كل مراحل الإنتاج والتوزيع، ويقوم بالتفتيش ومنح الاعتمادات والتحقق من مطابقة المنتجات للمواصفات، وسحب المنتجات غير المطابقة. وتضطلع وزارة الصحة بمتابعة حالات التسمم الجماعي ورصد أي مخاطر صحية والتنسيق مع المستشفيات والمراكز الصحية لتقديم الاستجابة السريعة.
بينما تتحمل السلطات المحلية مسؤولية مراقبة الأسواق والمطاعم على المستوى الإقليمي والمحلي، والتأكد من تطبيق القوانين الصحية، بما يشمل التفتيش الدوري ومتابعة الشكايات. كما تشرف وزارة الصناعة والتجارة على مطابقة المنتجات الصناعية والمستوردة للمعايير الوطنية والدولية وضمان المنافسة العادلة بين الفاعلين الاقتصاديين. وتكمل النيابة العامة هذا الإطار بمهمة التحقيق ومتابعة المسؤولين قضائيًا في حال إخلالهم بالسلامة العامة، بما يعزز عنصر الردع.
و رغم توفر كل هاته المؤسسات، تعاني من ضعف واضح في نظام الحكامة و التنسيق بين مختلف الجهات، وتأخر اتخاذ القرارات الاستراتيجية، وضعف التتبع الرقمي، وعدم توفر شفافية كاملة للمواطنين، مما يضعف فعالية الرقابة ويحد من القدرة على ضمان غذاء آمن لكل المواطنين. ويبرز هذا النقص بشكل خاص في القطاع غير المهيكل، حيث تظل العديد من المنتجات خارج نطاق الرقابة الفعلية، و هو ما يتطلب القيام با صلاحات مؤسساتية لتعزيز الحكامة وتفعيل دور كل الجهات على نحو متكامل.
و الى جانب هاته المؤسسات، يلعب المجتمع المدني والإعلام دورًا مكملًا وحيويًا في التوعية ونشر المعلومات ومتابعة التجاوزات، وتعزيز شفافية و مواكبة المتضررين خاصة جمعيات حماية المستهلكبن التي تفتقر غالباً إلى صفة المنفعة العامة، مما يحد من قدرتها على رفع دعاوى أو متابعة تنفيذ الأحكام القضائية. كما أن الإعلام التقليدي والرقمي يلعب دوراً مزدوجاً، فهو يكشف التجاوزات ويطرح القضية أمام الرأي العام، لكنه في بعض الأحيان يساهم في نشر معلومات غير دقيقة تزيد من القلق والخوف، و هو ما يستدعي تعزيز الصحافة الاستقصائية العلمية والتواصل القائم على بيانات موثوقة.
و قد رصدت عدة تقارير وطنية التحديات التي تواجهها منظومة الأمن الغذائي بالمغرب، مؤكدة أن حماية صحة المستهلك وضمان سلامة الأغذية ما تزال تواجه عقبات هيكلية.
فقد أقر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في تقريره المعنون «من أجل سياسة عمومية حقيقية في مجال السلامة الصحية للمواد الغذائية» الصادر سنة 2020 بأن الوصول إلى تغذية آمنة ومغذية يمثل حقاً دستورياً أساسياً، وأن القوانين القطاعية الحالية غير كافية لمواكبة التغيرات السريعة في قطاع الأغذية، كما أبرز ضعف التنسيق بين الجهات المسؤولة، ونقص التتبع الرقمي، وضعف التواصل الفعّال مع المستهلك.
و دعا في توصياته الى إطلاق سياسة عمومية شاملة للأمن الغذائي، وإنشاء وكالة وطنية مستقلة للأمن الغذائي، وتكوين لجنة علمية مستقلة لتقييم المخاطر، وتوسيع فضاءات التواصل الرقمي مع المستهلكين والمشغلين، وتعزيز الشفافية والتتبع الرقمي للمنتجات الغذائية.
و من جانبه،رصد المجلس الاعلى للحسابات في تقريره السنوي لعام 2018 حول المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية (ONSSA) تحديات كبيرة تتعلق باستقلالية الجهاز الرقابي، وندرة الموارد البشرية والمادية، ونقص التغطية الجغرافية، وغياب نظام تتبع موثوق لجميع مراحل الإنتاج والتوزيع، بالإضافة إلى محدودية المعلومات المتاحة للمواطنين، مما يضعف قدرتهم على اتخاذ قرارات استهلاكية سليمة ويهدد ثقتهم في المؤسسات.
وأوصى المجلس الاعلى للحسابات بضرورة توضيح موقع المكتب ضمن هيكل مؤسسي واضح، وتعزيز تغطيته الإقليمية، وتحديث النصوص القانونية، وتوسيع الموارد، وإنشاء نظام تتبع موثوق ونشر بيانات الرقابة بشكل شفاف.
كما رصد المجلس الاعلى للحسابات نقص الرقابة على المخزونات الاستراتيجية للمواد الغذائية الأساسية، وغياب متابعة دقيقة للقطاع غير المهيكل و أوصى بوضع آليات لتتبع المخزون وضمان سلامته وفق معايير علمية واضحة.
كما خلصت اللجنة البرلمانية التابعة لمجلس المستشارين في تقريره الصادر في 2022 حول الأمن الغذائي بالمغرب الى وجود ثغرات في مراقبة الأسواق ومطابقة المنتجات للمعايير الوطنية والدولية، وأوصت اللجنة بضرورة تعزيز الإطار الرقابي، وتفعيل حوكمة المخاطر، وضمان التواصل الفعّال مع المستهلكين، وتعزيز قدرات الجهات المختصة على التدخل السريع في حالات الطوارئ الغذائية.
إن هذه التقارير مجتمعة تشكل قاعدة علمية وقانونية صلبة لفهم اختلالات منظومة الأمن الغذائي بالمغرب، وتوضح الحاجة الملحة إلى تحديث القوانين، وتعزيز استقلالية الأجهزة الرقابية، وتوسيع الشفافية والتتبع الرقمي، وتفعيل دور الإعلام والمجتمع المدني في حماية المستهلك وتعزيز الثقة الوطنية والدولية في منظومة الغذاء.
ان ثقة المواطن في المنظومة الغدائية تواجه اليوم اختباراً حقيقياً. ومع الاستعداد لاستضافة تظاهرات رياضية عالمية، أصبح موضوع الأمن الغذائي أولوية وطنية وتنفيذ التوصيات الصادرة عن المؤسسات الوطنية ضرورة مستعجلة بما في ذلك تحديث القوانين، وتعزيز استقلالية المكتب الوطني للسلامة الصحية، ومنح الجمعيات المختصة صفة المنفعة العامة، وارساء نظام حكامة شفاف مع متابعة صحة المعطيات و التحديات و تنوير الراي العام الوطني. . فالمسألة لا تتعلق بسلامة ما يوجد في الطبق، بل بحياة وكرامة وثقة و سلامة المواطن و صورة المغرب أمام العالم.
المصدر: العمق المغربي
