بمناسبة اليوم الدراسي الذي نظمته الأمانة العامة للحكومة والوزارة المنتدبة لدى رئيس الحكومة المكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وبالنظر لما شكله هذا اللقاء من مناسبة للخوض في عدة قضايا وإشكاليات مرتبطة بالأمازيغية في سيرورة التشريع الوطني، ارتأيت، كما هي عادتي في تحرير جزء من الإشكاليات التي أراها مهمة وكانت جزءا من تدخلي، أن أصوغها في مقال يُنشر إغناء للنقاش العمومي بهذا الخصوص.
إشكالية الغموض في تفسيرات القضاء الدستوري
من المعلوم أن القوانين التنظيمية قبل نشرها في الرسمية تستوجب إحالتها على المحكمة الدستورية لفحص خلوها مما يتعارض ومقتضيات الدستور، حيث أصدرت المحكمة الدستورية قرارها رقم 19/97 في شأن القانون التنظيمي 26.16 المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، حيث فحصت في قرارها جملة من مواد القانون التنظيمي، وفي هذا السياق استوقفتني عدد من الإشكاليات التي ظلت في اعتقادي دون حسم أورده كالآتي:
- في إشكال عدم الحسم في مدلول اللغة الأمازيغية:
لقد نص دستور المملكة المغربية لسنة 2011 في فصله الخامس على ما يلي: “تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة، بدون استثناء. يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية“. وفي سياق فحص القضاء الدستوري لهذا الفصل “حيث إن الفقرتين الثانية والأخيرة من المادة الأولى تنصان على أنه “…يقصد باللغة الأمازيغية في مدلول هذا القانون التنظيمي مختلف التعبيرات اللسانية الأمازيغية المتداولة بمختلف مناطق المغرب، وكذا المنتوج اللسني والمعجمي الأمازيغي الصادر عن المؤسسات والهيئات المختصة. ويعتمد حرف تيفيناغ لكتابة وقراءة اللغة الأمازيغية“؛
وحيث إن أحكام الفقرتين المذكورتين من المادة الأولى، ترتبط، من حيث موضوعها، ارتباطا عضويا ووثيقا بمشمولات القانون التنظيمي المعروض، إذ أن تحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها، وتحقيق الغاية الدستورية المراد بلوغها من سن القانون التنظيمي، يتوقفان، قبلا، على التحديد الإجرائي لمدلول اللغة الأمازيغية والحرف المعتمد لكتابتها وقراءتها؛
وحيث إنه يستفاد، من مبادئ وأحكام الدستور المشار إليها، وانسجاما معها، أن الدستور استعمل، من جهة أولى، عند إقراره بالطابع الرسمي للغة الأمازيغية، صيغة المفرد لا الجمع، واعتبر اللغة الأمازيغية، من جهة ثانية، رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء، مما يجعل حق استعمالها والتواصل بها، حقا شخصيا مكفولا للمواطنات وللمواطنين، دون استثناء أو تمييز أو تقييد بمنطقة جغرافية أو وضع معين، وأرسى، من جهة ثالثة، مبدأ تساوي اللغتين العربية والأمازيغية في طابعهما الرسمي، وميز، من جهة رابعة، بشكل واضح، بين مستوى من الالتزام يهم اللغة الأمازيغية الرسمية، يتمثل في تفعيل طابعها الرسمي وإدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية وحمايتها وتنميتها، وبين مستوى ثان من الالتزامات، نص عليه في الفقرة الخامسة من الفصل الخامس، يتعلق بحماية اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة بالمغرب؛
وحيث إنه، بالإضافة إلى ما تقدم، فإن التنصيص على “اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة بالمغرب” والمعنية بعمل الدولة على حمايتها، أتى في الفقرة الخامسة من الفصل الخامس من الدستور غير مقرون باللغة الأمازيغية وحدها؛
وحيث إن مدلول اللغة الأمازيغية المخول لها طابع الرسمية، والمعنية بمجال القانون التنظيمي المعروض، ينصرف إلى اللغة الأمازيغية المعيارية الموحدة، المكتوبة والمقروءة بحرف تيفيناغ، والمكونة من “المنتوج اللسني والمعجمي الأمازيغي الصادر عن المؤسسات والهيئات المختصة“، ومن مختلف التعبيرات الأمازيغية المحلية، بشكل متوازن ودون إقصاء، والتي لا تتخذ طابع المكونات اللغوية القائمة الذات، ولا تمثل بدائل عن اللغة الأمازيغية الرسمية، وإنما روافد تساعد على تشكيلها، على النحو المنصوص عليه في المادة الثانية (البند الثالث) من القانون التنظيمي المعروض؛
وحيث إنه، مع مراعاة هذا التفسير، فليس في الفقرتين الثانية والثالثة من المادة الأولى من القانون التنظيمي ما يخالف الدستور؛
إن النظر إلى الدفوعات القانونية للقاضي الدستوري في فحصه لهذه المادة، نجدها وإن تطرقت للإشكالية المرتبطة بضرورة تحديد مدلول اللغة الأمازيغية، نجدها لم تحسم فيه بالشكل المطلوب، ذلك أنه إذا انصرف مدلول اللغة الأمازيغية إلى المنتوج اللسني والمعجمي الأمازيغي، فإن الفهم ينصرف تلقائيا لما أنتجه المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية باعتباره مؤسسة مرجعية في هذا الباب وفق ما نص عليه الظهير الشريف رقم 299011 (17 أكتوبر 2001) صادر في 29 من رجب الخير 1422 القاضي بإحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، لا سيما في مادته 3، والتي جعلت من مهام المعهد “إعداد معاجم عامة وقواميس متخصصة“، وهذه المعاجم هي التي ستشكل المادة الخام لتحرير النصوص القانونية في سياق التشريع، غير أنه لما أضاف القاضي الدستوري “المنتوج اللسني والمعجمي الأمازيغي الصادر عن المؤسسات والهيئات المختصة، فإنه أعطى الإمكانية للمؤسسات الرسمية أن تنتج مصطلحاتها القانونية ذات الصلة بمجال اشتغالها. من كل هذا ففي نظري لو تم التعارض من جهة المصطلحات لا المعاني بين ما أنتجه المعهد الملكي وباقي المؤسسات والهيئات المختصة فإلى أي جهة نحتكم وأي مصطلح ستكون له الحجية القانونية في صياغة النصوص القانونية، وأي جهة لها سلطة الفصل في هذا الأمر، من هنا اعتقد غير جازم أن القاضي الدستوري لم يحسم هذه الإشكالية بل تظل مفتوحة أمام الاجتهادات، ولعل الأمانة العامة في تكامل مع باقي الفاعلين مدعوة للاجتهاد قصد حسم هذه الإشكالية مع الاستعانة بالأعمال التحضيرية للقضاء الدستوري خلال اشتغاله على هذا القانون التنظيمي.
- في إشكال غياب المساواة الدستورية بين اللغة العربية والأمازيغية:
بالرجوع لنفس قرار المحكمة الدستورية الذي أتينا على ذكره سالفا، والذي صرحت بمقتضاه المحكمة الدستورية بأن جميع مواد القانون التنظيمي ليس فيها ما يخالف الدستور، وهذا في نظري فيه نقاش ذلك أن المادة 11 من القانون التنظيمي 26.16، والتي تنص على “تعمل الإدارة، بكيفية متدرجة، على نشر النصوص التشريعية والتنظيمية ذات الصبغة العامة في الرسمية باللغة الأمازيغية“. تُطرح مدى دستوريتها ومدى مساواتها مع اللغة العربية بالاستناد لما تضمنه قرار المحكمة الدستورية 19/97، والذي نص على “وأرسى، من جهة ثالثة، مبدأ تساوي اللغتين العربية والأمازيغية في طابعهما الرسمي، وميز، من جهة رابعة، بشكل واضح، بين مستوى من الالتزام يهم اللغة الأمازيغية الرسمية، يتمثل في تفعيل طابعها الرسمي وإدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية وحمايتها وتنميتها، ومن ثمة فإن مبدأ التساوي في الطابع الرسمي يقتضي، ليس نشر النصوص ذات الصبغة العامة في الرسمية أي ترجمت النصوص بعد استكمال مسارها التشريعي، مما يجعله تشريعا لاحقا إن جاز لنا إطلاق هذا الوصف، إذ أن مبدأ التساوي في الطابع الرسمي كان يقتضي أن يتم سن القوانين وإعداد النصوص باللغة الأمازيغية قبل عرضها على مسطرة التشريع. لذلك ففي نظري تطرح هذه المادة إشكالا دستوريا، وغرضي هو فتح نقاش واسع حول القانون التنظيمي للعمل سويا على التواضع على منهجية وطنية واحدة لتسريع تفاعل الطابع الرسمي للأمازيغية.
إشكالية المخطط التشريعي ومنهجية التدبير المؤسساتي:
لقد سبق ونبهت في دراسات ومقالات سابقة إلى أن التفعيل الرشيد للقانون التنظيمي 26.16، يتطلب من بين ما يتطلب ضرورة التعجيل بإعداد مخطط تشريعي شامل، لملاءمة الترسانة القانونية مع مقتضيات القانون التنظيمي 26.16، حيث توجد عدة قوانين في مختلف القطاعات تحتاج وباستعجال مراجعة إما شاملة أو جزئية. إن التوفر على وثيقة بهذا الحجم والأهمية هو الكفيل بعقلنة الزمن التشريعي، وهو ما يقتضي من المؤسسة البرلمانية المغربية، العمل على أن تكون في أتم الجاهزية لتسريع وتيرة مناقشة والمصادقة على مشاريع القوانين التي تعدها الحكومة، ولم لا يكون للبرلمان إسهام في تقديم مقترحات قوانين تسهم في هذا المسار
ولعل خطورة التدبير الجزئي المحدود للحكومة الحالية لملف الأمازيغية، هو المانع الأكبر لطرح القضايا الكبرى والإشكاليات الكبيرة المرتبطة بهذا الملف الاستراتيجي، وعوضا عن ذلك يتم الاتجاه نحو التركيز على قضايا جزئية وتضخيمها رغم أهميتها مما يحول دون امتلاك جماعي وصياغة أرضية وطنية واضحة في لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية. وقد كان مشاركتي في الندوة الدولية للجامعة الصفية لسنة 2023، فرصة بسطت فيها كيف أن ملف الأمازيغية هو ملف يندرج ضمن السياسات العامة التي تخترق عمل الدولة بشكل عرضاني، وبيّنت مسؤولية رئيس الحكومة في هذا الصدد، وذلك بالاستناد لعدد من القرائن الدستورية، لكن مع الأسف يبقى تدبير هذه الحكومة لهذا الملف مشوبا بقصور في فهم هذه الأبعاد مما أثر على منهجيتها ومحدودية نموذجه التدبيري. كما أن محاولة فهم خلفية إعداد القانون التنظيمي، تكشف أن العقلية التشريعية التي حكمت إعداد هذا النص وغيره هو التقيد اللاواعي بإكراهات الدولة وقدرتها على الوفاء بكل الالتزامات الدستورية التي جاء بها دستور 2011، والذي كان فوق طموح الجميع، وقد كان في حاجة لنخب ونقاش عمومي واسع قصد التنزيل الأسلم والرشيد لمقتضياته.
المصدر: العمق المغربي