الألتراس بالمغرب.. صوت المجتمع ودروس في الانتماء والوفاء

وأنا أتابع بعض المباريات الأخيرة في البطولة الوطنية المغربية وخصوصا ناديي الوداد الرياضي والرجاء الرياضي، وكأي متتبع لهاذين الناديين وبقية الفرق المرجعية الوطنية، لفت انتباهي ما رسمته جماهير هاته الأندية من لوحات فنية وما بعثته من رسائل مختلفة المضامين كما هو الأمر دائما وفي أي فرصة سانحة يسمح لها فيها بالحضور داخل مدرجات الملاعب والفرق الذي تحدثه هاته الابداعات وحضور وعمل مجموعات التشجيع عموما سواء داخل رقعة الملعب وخارجها (ايجابا)، إن على مستوى الضغط والتحفيز، أو من خلال رسم اللوحات الكوريغرافية الإبداعية داخل مدرجات الملعب، إما احتفاء بالتاريخ والحاضر المجيدين لكل نادي، او لبعث رسائل تتماشى مع التحولات والمستجدات التي يعرفها الشأن الكروي او السياسي والمجتمعي الوطني والإقليمي والدولي.
لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هو سبب صمود هاته الظاهرة رغم التضييق الذي تتعرض له ومحاولات التشويه والتشويش؟
إن كرة القدم بالمغرب لم تعد رياضة كباقي الرياضات الأخرى، أي أنها لا تبدأ وتنتهي بصافرة الحكم. فبالإضافة إلى كونها لحظات متعة وتشويق، فرح وغضب أثناء سريان المقابلات، فهي فضاء يعتبره العديد من فئات المجتمع مكانا للتنفيس عن الضغوط المجتمعية والسياسية والاقتصادية الوطنية وحتى الدولية، كيف لا وهي من تحتضن مدرجاتها فصائل تشجيع دائمة التفاعل مع مستجدات محيطها، متجاوزة بذلك الصورة النمطية التي يتخيلها البعض إلى محاولة ترسيخ صورة اكثر إيجابية عن التشجيع؛ فبالرغم من كونها قد تعرف انحرافات سلوكية في بعض الأحيان من قبل محسوبين على الجمهور إن صح التعبير نتيجة لبعض مظاهر العنف التي تعرفها ملاعب الكرة سواء في علاقة الجماهير في ما بينها أو تجاه اللاعبين او الحكام او مسؤولي الأندية، أو في علاقتها بالفضاء الخارجي في بعض الأحيان ضد المرافق العمومية وممتلكات المواطنين الخاصة في الشارع العام ، فهي تضم داخلها جميع فئات المجتمع من تلاميذ وأساتذة ومهندسين ودكاترة رجال أعمال ومحامون وغيرهم… الأمر الذي يجعلها هي الأخرى في موقع المسؤولية من أجل محاصرة هذه الانحرافات العرضية والتي تبقى استثنائية وليس العكس؛ وما يزكي هذا الطرح هو الاستنكار الذي تعلنه هاته الفصائل للعديد من حالات العنف والفوضى المسجلة على بعض منتسبيها (مع تسجيل مسؤوليتها المعنوية على الأقل في ما يحدث أحيانا).
وكإشارة بسيطة، فرغم الأحداث العنيفة التي تسجل على هامش بعض المباريات أو حتى داخل الأحياء والتي تتحمل فيها الفصائل جزء من المسؤولية مثلا من خلال بعض الأغاني التي ترفعها وتحرض من خلالها على جماهير أندية أخرى، والتي تسهم في تكوين حالة نفسية تصل أحيانا إلى الحقد والكراهية للطرف الآخر ومع ما يمكن التحذير بشأنه من تحول هذه اللحظات إلى مآسي ترخي بظلالها على الفضاء العام من مؤسسات وأسر المعنيين وغيرهم، فإنه لا يمكن عزلها عن الأجواء التي تطبع الملاعب الرياضية في العالم.
هاته الفصائل من خلال “مبادىء الالتراس” التي تؤطرها من قبيل الاستقلالية والتضحية والوفاء والصبر وغيرها وما ترسمه من لوحات وتكتبه من رسائل تعتبر ان التشجيع ليس فوضى وصراخ وتنفيس فقط، بل تعبير عن موقف وتجسيد لقضية من فئة جعلت من حبها لناديها جسرا للتعبير عن كونها جزء من المجتمع بمختلف فئاته، تفرح لفرحه وتعيش معاناته. في هذا السياق يمكننا أن نسرد ثلاث مواقف لهاته الفصائل تعزز المسار الذي انخرطت فيه من أجل تجاوز التمييز السلبي الذي كانت تعانيه داخل المجتمع (نتيجة ما عاشته هاته الفصائل من مشاهد تسيء لها ولمجتمعها خصوصا في بداية تجربتها بالمغرب)، وتعزيز البعد الإيجابي لديها بالتأكيد على وفاءها للقيم التي تؤطر محيطها ولمدركاتها المجتمعية بتعبير الدكتور سعيد الحسن.
الألتراس والحضور المجتمعي والإنساني:
لعل المتابع لإبداعات جماهير الفرق الوطنية وبالأخص الكبيرة منها، يتضح له أن هاته المجموعات تحاول دائما التأكيد على فكرة أنها جاءت ضمن سياق انتشار الظاهرة عالميا لكن بصيغة مغربية خالصة وفية لوطنها ومبادئه وشعبها الذي تمثل جزء منه.
نستحضر هنا بعض الأغاني التي تعبر عن رفض الفصائل للواقع المعاش اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. ونذكر على سبيل المثال أغنية ألترا إيغلز المشجعة لنادي الرجاء الرياضي في بلادي ظلموني والتي صارت كلماته وألحانها حاضرة اقليميا ودوليا حتى. فبالرغم مما يمكن للبعض أن يسجله بخصوصها، تبقى معبرة ومتحدثة بواقع العديد من ابناء هذا الوطن. نفس الشيء يقال عن أغنية فصيل الوينرز المشجع لنادي الوداد الرياضي قلب حزين والتي رفض من خلالها الواقع الذي تعيشه فئة مهمة من الشباب المغربي، وكذلك أغنية فصيل هيركوليس المشجع لنادي اتحاد طنجة بلاد الحكرة، وأغنية أيام القهرة والظلام لفصيل بلام أرمي المشجع لنادي الجيش الملكي، وغيرها من الأهازيج التي تعبر فيها هاته الجماهير عن رفضها لكل مظاهر الفقر والظلم والبطالة والهجرة السرية والادمان وغيرها من الظواهر السلبية التي يعرفها المجتمع.
يمكن أن نقول أن الفصائل المشجعة للأندية الوطنية بهذا الوعي الاجتماعي والسياسي الذي تملك منتسبيها انتقل بها إلى ضفة أخرى، محاولة بذلك محو وتجاوز الصورة التقليدية التي ارتبطت بها من قبيل أنها تضم أفراد غير واعين او أنها حركة شغب وفوضى وغيرها من الأوصاف السلبية… فأفراد هاته الفصائل معظمهم أبناء الطبقة المتوسطة والفقيرة بالمجتمع، وبالنظر لما يعيشونه داخل المجتمع مما سلف ذكره، يستغلون المدرجات الفيراج من أجل التعبير عن هموم الناس بمخاطبة المسؤولين بوجدان المجتمع وما يعشيه من مشاكل اجتماعية واقتصادية.
نضيف هنا دورا مهما تقوم به هاته الفصائل، وهو العمل الإنساني والخيري. حيث تعمل من خلال العديد من المبادرات التي تنظمها على ترسيخ فكرة العطاء قبل الأخذ. ونستحضر هنا انخراط بعضها في حملات توعوية في لحظات تاريخيّة عاشتها بلادنا كلحظة انتشار فيروس كورونا، حيث قامت جماهير الجيش الملكي بحملة توعوية ضد انتشار هذا الفيروس، ناهيك عن انخراطهم ومعظم الجماهير الأخرى في مبادرات إنسانية في أعالي الجبال والقرى وحملات التبرع بالدم وغيرها….
الألتراس والقضية الوطنية
إن المتتبع لتفاعل الفصائل المشجعة للفرق الوطنية يتضح له بالملموس مدى وفاءها لوطنها والولاء الذي تكنه لثوابت الدولة المغربية واستعدادها للتضحية من أجل ذلك. وتحضرنا هنا بعض أهازيج هاته الجماهير التي تعبر عن ذلك من قبيل أغنية جماهير الرجاء الرياضي وبعقلية سياسية جينا نقولو الصحراء مغربية، ايضا التيفو التاريخي لفصيل فاطال تايغرز المشجع لنادي المغرب الفاسي حول الصحراء المغربية صحراؤنا وطننا والاحتفال التاريخي لجماهير الوداد الرياضي بذكرى المسيرة الخضراء على مدرجات ملعب محمد الخامس، وغيرها من المشاهد التي يؤكد فيها هؤلاء الشباب انهم ابناء هذا الوطن.
ففي الوقت الذي تنتقد فيه الفصائل الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي تعيشه العديد من فئات المجتمع المغربي، تعتبر نفسها معنية بالتحديات التي يواجهها الوطن الذي تنتمي إليه، وأنها في القضايا الاستراتيجية والمصيرية لا يمكن إلا أن تكون سندا ودعما لثوابت الأمة المغربية.
الألتراس والقضية الفلسطينية:
إن اهتمام جماهير الكرة بالمغرب بالقضية الفلسطينية ودفاعها عنها هو ترسيخ لمركزية القضية الفلسطينية لدى المغاربة عموما كما هو معروف لدى الجميع، ولعل التفاعل الذي يعرفه المغرب من حركية تضامنية منذ انطلاق الحرب الأخيرة على غزة خير دليل على ذلك.
حيث تشكل القضية الفلسطينية محور اهتمام مجموعات التشجيع بالمغرب، من خلال حرص هذه الأخيرة على استغلال كل فرصة أو حدث يتعلق بفلسطين للتأكيد على مكانة القضية. ولعل العديد من المشاهد التي نتابعها تؤكد ذلك؛ على سبيل المثال لا الحصر لا تكاد تجد مدرج من مدرجات جماهير الفرق الوطنية يخلو من علم فلسطين إلى جانب علم المغرب، ناهيك عن التيفوهات والرسائل التي ترسمها وتخطها هذه المجموعات إما تذكيرا بالقضية ودعما لاستمرارها حية، أو تفاعلا مع ما استجد فيها من أحداث على أرض فلسطين أو ما يتعلق بها. إضافة إلى رفع العديد من صور رموز المقاومة الفلسطينية، كتعبير عن مركزية القضية لدى المغاربة واعتبارها نموذجا في المقاومة والنضال.
أيضا الأهازيج والغاني التي ترفع داخل المدرج والتي أصبح البعض منها اغاني شعبية تم تداولها على لسان الناس خارج الملاعب، خصوصا جماهير الرجاء الرياضي التي أبدعت من خلال أغنية “رجاوي فلسطيني”، سواء من حيث الكلمات او اللحن، وغيرها من الأغاني التي ترفع دعما لفلسطين وتحررها. سواء لجماهير الوداد الرياضي أو اتحاد طنجة أو غيرهم…
إن هذه المواقف التي تسجلها مجموعات الألتراس إضافة إلى كونها نابعة من قناعاتها بضرورة دعم الشعب الفلسطيني لتحرير أرضه وتحقق كرامته هي رد فعل على كل من تخاذل وتراجع في معركة الدفاع عن الأراضي المقدسة بفلسطين. فهي بذلك تنطلق من موقف يضع الشعب الفلسطيني مظلوما مسلوب الأرض والاحتلال الإزرائيلي كيانا احلاليا استيطانيا. كما أنها بالنسبة لهاته المجموعات هي نموذج لاستهام قيم المقاومة والصمود للدفاع عن ما تؤمن به من قيم وقضايا.
ختاما:
إن الحديث عن الألتراس بالمغرب سيأخذ من اي متتبع ومهتم الوقت الكثير فهما، تحليلا ونقدا. لأنه في الوقت الذي يتوفر فيه المغرب على هاته الفصائل التي تتحرك وتعمل بشكل يتوافق مع طبيعة مجتمعها ثقافيا وهوياتيا، هناك دول أخرى تصرف اموالاً طائلة لتطوير كرة القدم بالشكل الذي يثير انتباه الجماهير من اجل ان تكون كنظيرتها المغربية حضورا ووعيا وابداعا، على اعتبار أن هاته الأخيرة ناهيك عن حضورها القوي وتنظيمها المحكم وإبداعها المنقطع النظير، فهي أيضا تتمتع بوعي سياسيا واجتماعي متقدم وتعبر عن وفاء منقطع النظير لوطنها ومرجعياته.
لكن مع كل ما تقوم به هاته الفصائل مع تسجيل بعض الانحرافات التي يمكن ان تكون وتبقى استثنائية نجدها تتعرض أحيانا للتضييق والمنع. فلربما الطريقة التي تم التعامل بها مع الاحزاب والنقابات وهيئات المجتمع المدني هي التي يراد التعامل بها مع هاته الظاهرة من اجل إضعافهـا، مما يوحي بأنها صارت تشكل مصدر إزعاج لمن توجه لهم سهام النقد والاحتجاج.
فبالإضافة إلى أن سلوك وخطاب الالتراس ساهمت في تطوره العديد من العوامل، داخليا، كاستفادتها من أخطاء الماضي ومحاولة عملها على جعل حضورها خطابا وسلوكا يتماشى وطبيعة المجتمع المغربي في قيمه وروحه الإيجابية، وخارجيا، من قبيل الحرمان الاجتماعي والاقتصادي وتراجع منسوب الثقة في المنظومة بشكل عام ونفور الشباب من المشاركة، فهي بهذا النهج ورغم أنها تتحرك من خارج النسق المنظم ان صح التعبير، يمكن اعتبارها ضمن سياق المشاركة السياسية المواطنة. حيث ملأت الفراغ الذي تركته عملية تجريف الفضاء العام سياسيا واجتماعيا بخطاب احتجاجي منضبط لثوابت الدولة المغربية وهويتها وثقافة مجتمعها مبني على ثقافة المقاومة والنضال.
هذا الحضور بهذا الشكل يطرح علامة استفهام حول الترهل الذي أصبح يعرفه المشهد العام حزبيا ونقابيا. والذي برغم ما يمكن تسجيله من لوم وعتاب لمن ساهم في تكريس هذا الواقع، يبقى الجانب الأكبر من المسؤولية على عاتق كل فرد داخل المجتمع ومن أي موقع كان (إداريا، تنطيميا، …) من أجل التخلص من ثقافة اللا اهتمام واللامعنى والخلاص الفردي التي دمرت قدرة الأفراد على المساهمة في التغيير كل من موقعه؛ فإحداث التغيير يحتاج انضباط أقوى وثبات اكبر ووفاء اعمق، الوطن والمجتمع يستحقان كل ذلك.
فالخلاصة هي أن سر قوة هذه الظاهرة في صيغتها المغربية رغم ما يمكن تسجيله من ملاحظات بشأنها كما أسلفنا الذكر، ورغم اختلافها طبعا عن التنظيمات الحزبية والنقابية والجمعوية في بنيتها التنظيمية وطريقة اشتغالها وأرضياتها التأسيسية يتجلى في قدرتها على تجسيد الانضباط العملي من خلال سلوكها وحركيتها لما يؤطرها مرجعيا وفقا لقناعاتها، إضافة إلى اجتهادها في محاولة العمل على تفكيك الصورة النمطية التي ألصقت بها جراء ما ينتج عنها أحيانا من مشاهد تسيء لها أولا ولمحيطها ثانيا.
*دكتور في القانون العام والعلوم السياسية
المصدر: العمق المغربي