أجمعت فرق الأغلبية بمجلس المستشارين على أن تحقيق التنمية الترابية والعدالة المجالية يقتضي تجاوز الاختلالات البنيوية التي تراكمت عبر عقود، واعتماد مقاربات جديدة تضمن توزيعاً منصفاً للثروات والخدمات بين مختلف المجالات الترابية.
وأبرزت فرق الأغلبية، خلال الجلسة الشهرية لرئيس الحكومة حول “التنمية الترابية ورهانات تحقيق العدالة المجالية”، الثلاثاء، أن البلاد بحاجة إلى نماذج تنموية ترابية أكثر نجاعة، تجمع بين تثمين الإمكانيات المجالية، وتقليص الفوارق بين الجهات والمراكز وضواحيها، وبين المناطق الحضرية والقرى الهشة، مع مراجعة طرق التدبير، وترسيخ ثقافة النتائج، وضمان انتقال فعلي للاختصاصات والموارد إلى الجهات.
ركائز التنمية المجالية واستغلال الإمكانيات المتاحة
أكد عضو فريق التجمع الوطني للأحرار، محمد بن فقيه، أن الأغلبية الحكومية الحالية “لا حرج لديها في الحديث عن التراكمات السلبية كما الإيجابية”، مبرزاً أن التنمية الترابية تقوم على ثلاث ركائز أساسية تقوم على تثمين الإمكانات المجالية، والتوازن في توزيع الثمار، والتضمن والتآزر الوطني بين المجالات والفئات الاجتماعية.
وأوضح بن فقيه، أن المدبر العمومي، بإمكاناته المحدودة، يركز جهوده على المناطق الأكثر كثافة سكانية بهدف تحقيق نجاعة أكبر في الإنفاق العمومي، لافتاً إلى أن توزيع الاستثمار العمومي تحكمه بالأساس المعطيات الديمغرافية، إذ إن كلفة توفير الخدمة العمومية لمواطن في مدينة كبيرة تبقى أقل بكثير من كلفة توفيرها لمواطن في منطقة نائية.
وأوضح أن هذه العملية تعتمد مقاربة تشاركية يترأسها الولاة والعمال بحضور المنتخبين والمجتمع المدني والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، من أجل إيجاد صيغ توافقية وحلول قابلة للتنفيذ تُعالج مستويات متعددة من التباين.
وأشار في هذا السياق إلى ثلاثة مستويات أساسية لهذا التباين، المستوى الأول يتعلق بتفاوت مستويات التنمية والمساهمة في الناتج الداخلي الخام بين الجهات والمستوى الثاني يرتبط بالفوارق بين مراكز الجهات والمجالات البعيدة عنها أما المستوى الثالث فيهم التفاوت بين المدن وضواحيها.
واعتبر بن فقيه أن هذه العناصر تشكل “مفاتيح أساسية لصياغة النماذج الجديدة للسياسات الترابية المندمجة التي دعا لها الملك، والتي يتعين مواكبتها بأعلى مستويات الحكامة”، مؤكداً أن تحقيق عدالة مجالية وتنمية ترابية متوازنة يفرض التفكير في الاستغلال الأمثل للإمكانات المتوفرة وللأدوات المؤسساتية التي تؤطر المجال الترابي.
وفي هذا الصدد، دعا إلى الانتباه لتأثير الانتقال الديمغرافي الذي يفتح أمام المغرب نافذة الفرصة الديمغرافية لدعم قوي للنمو الاقتصادي، شريطة ضمان الولوج إلى تعليم ذي جودة، وتوفير فرص الشغل، وإنتاج اقتصادي حقيقي، كما توقف عند مسألة التمدن السريع، مشيراً إلى أن عدد سكان المدن المغربية تجاوز 63% سنة 2024.
وشدد بن فقيه على أهمية المدخل التشريعي ضمن مداخل تحقيق التنمية الترابية المندمجة والعدالة المجالية النسبية، معتبراً أن التأطير القانوني للتدخلات العمومية يحتاج إلى نقاش عمومي واسع. وطرح في هذا الإطار ضرورة تقييم بعض الأدوات المؤسساتية مثل وكالات التنمية ووكالة الواحات ومناطق الأركان، والاستفادة من الإيجابيات المحققة.
كما دعا إلى وضع قانون إطار لسياسة الدولة في المناطق الهشة مثل الجبال والمناطق الحدودية والمناطق القاحلة وشبه القاحلة، بما يضمن سياسات ناجعة تُسرّع تنميتها، وتحافظ على توازناتها البيئية، وتحسن وضع ساكنتها، وتعزز جاذبيتها.
الفارق بين البرامج والواقع
أقرّ رئيس فريق الأصالة والمعاصرة بمجلس المستشارين، كريم الهمس، أنه رغم الجهود التي بذلت منذ الاستقلال في مجال السياسات العمومية الموجهة للتنمية المحلية والترابية وبرامج تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية، ومخططات فك العزلة عن العالم القروي واللاتمركز واللامركزية وغيرها، ولكن الواقع لايزال عنيدا.
وأضاف: “لسنا ضد السرعة الأولى التي غيرت وجه بعض المدن المغربية وغيرت من شكل البنية التحتية لبلادنا عبر قطارات فائقة السرعة،وطرق سيارة،وموانئ ومحطات ومطارات دولية، وملاعب ومسارح وفنادق عالمية وغيرها،لأن هذا يشرفنا كثيرا ويرفع من قدر بلادنا، إذ نحن مع الحفاظ على مكسب السرعة الأولى، ولكننا أيضا مع ضرورة الرفع من إيقاع السرعة الثانية التي تعتني بالمجالات الهشة”.
وفي هذا الصدد، شدد الهمس على أن ضرورة تغيير ملموس في العقليات وتغيير ملموس في طرق العمل مع ترسيخ حقيقي لثقافة النتائج وبناء التدخل على معطيات ميدانية دقيقة واستثمار أمثل للتكنولوجيا الرقمية.
ولفت أن “تجارب التدبير الترابي المحلي تعد مدرسة حقيقة في صقل خبرات وتجربة الفاعل السياسي، بل تظل التجارب الشخصية فيتدبير الشأن المحلي من مداخل تميز ونجاح الفاعل الحكومي”، داعيا إلى مراجعة القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية من أجل المزيد من توسيع اختصاصاتها وتدقيق نطاق تدخل كل طرف وكل مؤسسة.
وأكد الهمس أهمية “العمل الفوري وبحزم على نقل المزيد من الاختصاصات من القطاعات الحكومية المعنية نحو الجهات وإطلاق مبادرة وطنية داخل قطاع الوظيفة العمومية بتحفيزات مالية ملموسة، من أجل دعم الجهات بالكفاءات.
كما دعا لوضع خارطة معطيات دقيقة وموحدة حول واقع القطاعات الاجتماعية “الصحة والتعليم والماء والطرق”، تكون أساس وضع مخطط فوري وآخر طويل الأمد للتدخل، مع تقوية التكوين بالتدرج في المناطق النائية وبتخصصات محلية.
وأوصى الهمس بـ”تعميم شبكة “تيكنوبارك” على أكثر الأقاليم هشاشة من أجل خلق ومواكبة المقاولات المحلية لإنعاش التشغيل المحلي بهذه المناطق”، مشيرا إلى أنها مداخل أساسية لتحقيق تنمية ترابية ناجعة تنتج عدالة مجالية حقة، تضمن تكافؤ الفرص بين أبناء المغرب الموحد.
مجهودات الدولة لاعتماد جيل جديد من برامج التنمية
اعتبر رئيس الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية، عبد السلام اللبار، أن الحكومة تفاعلت مع التوجيهات الملكية لإعداد جيل جديد من برامج التنمية الترابية، من خلال تضمين مشروع قانون المالية لسنة 2026 لمحور إعداد تنفيذ وإعداد جيل جديد من البرامج كمحور رئيسي من محاور إعداد المشروع، فضلا عن إحداث صندوق التنمية الترابي المندمجة كآلية للمناطق الأكثر هشاشة، فضلا عن إطلاق مشاورات مع مختلف الفاعلين.
وأكد اللبار أن عددا من المناطق القروية والنائية من عجز اجتماعي وتنموي من تجلياته تعدد مظاهر الهشاشة والبطالة وضعف البنيات التحتية والتجهيزات الأساسية مع تفاوتات في نفس الإقليم، معتبرا أن “هذا الأمر لم يعد ممكنا القبول به في مغرب الإنصاف والمصالحة ومغرب العهد الجديد ومغرب نموذج تنموي جديد”.
وأضاف: “حان الوقت لتغيير طريقة صناعة القرار العمومي بالمرتبط بالتنمية الترابية ومراجعته من مقاربة تقليدية للتنمية الاجتماعية وبذل مجهود استثنائي لتوسيع قاعدة المستفيدين من شبكات الأمان الاجتماعي”.
دور القطاع الخاص في تحقيق التنمية المجالية
أكدت هناء بن خير، عضو الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، أن مسار التنمية يجيب أن يمضي بسرعة واحدة في كل المجالات الترابية، مبرزة في هذا الصدد أهمية المقاربة التشاركية للحكومة في إعداد الجيل الجديد من برامج التنمية.
وأشارت إلى أن “ما تحقق في الولاية الحكومية الحالية رغم أهميته إلا أن عددا من المناطق خاصة العالم القروي، وفق تعبيرها، لم ينصفها التاريخ والجغرافيا، حيث لازالت تعاني من اختلالات بنيوية عميقة خاصة في مجالات التعليم والصحة والسكن، كما أن هذه المناطق لازال سكانها يشعرون، وفق تعبيرها، بضعف التنمية بسبب اختلالات متراكمة طويلة.
ولفتت المتحدثة ذاتها أن “واجب القطاع الخاص الوطني والأخلاقي المساهمة في تحقيق العدالة المجالية من خلال الاستثمار المنتج”، داعية إلى مواجهة إشكاليات البطالة في العالم القروي خاصة مع توالي سنوات الجفاف.
المصدر: العمق المغربي
