مقدمة
تعيش الساحة السياسية المغربية منذ عقود على إيقاع متكرر من الانتخابات والبرامج الحزبية والوعود الانتخابية، التي غالباً ما تنتهي بخيبات أمل متكررة لدى المواطنين. يتسم المشهد السياسي المغربي بخصوصية فريدة، حيث تظل المؤسسة الملكية الفاعل السياسي الأول، بينما تتحرك الأحزاب السياسية ضمن هامش محدود، مما يجعلها تبدو وكأنها “محكومة أكثر مما هي حاكمة”.

يثير هذا الوضع تساؤلات عميقة حول دور الأحزاب السياسية في المغرب وقدرتها على تقديم بدائل حقيقية للمواطنين. فالخطاب الحزبي، سواء كان يسارياً أو يمينياً أو إسلامياً، يكاد يكون نسخة مكررة، يفتقر إلى رؤى مغايرة ومقترحات ملموسة قادرة على إقناع المواطن بوجود بديل حقيقي. تتردد نفس الشعارات حول التنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، دون أن تقترن بآليات تنفيذية واضحة أو مشاريع قابلة للقياس والمحاسبة.

تتناول هذه الدراسة الموسعة إشكالية الجمود السياسي في المغرب، من خلال تحليل أسباب إعادة إنتاج نفس الخطاب السياسي وغياب البدائل لدى الأحزاب المغربية. سنبحث في الجذور التاريخية لهذه الأزمة، ونحلل طبيعة الخطاب السياسي السائد، ونناقش تأثير بنية النظام السياسي على أداء الأحزاب. كما سنتطرق إلى ظاهرة صعود الشعبوية كاستراتيجية سياسية، ونبحث في أزمة الثقة المتنامية بين المواطنين والأحزاب، ودور المجتمع المدني كفاعل جديد في الساحة السياسية. وأخيراً، سنقدم قراءة استشرافية لمستقبل الأحزاب السياسية في المغرب في ظل التحولات الراهنة.

السياق التاريخي ودور المؤسسة الملكية
لفهم الوضع الراهن للأحزاب السياسية في المغرب، لا بد من العودة إلى السياق التاريخي الذي تشكلت فيه هذه الأحزاب، وإلى الدور المحوري الذي لعبته وتلعبه المؤسسة الملكية في تحديد مسار الحياة السياسية. فمنذ الاستقلال، تميز المشهد السياسي المغربي بمركزية السلطة الملكية، التي اعتبرت نفسها الضامن للاستقرار والوحدة الوطنية [1].

تأسست العديد من الأحزاب السياسية المغربية في فترة ما قبل الاستقلال أو بعده مباشرة، وكان لها دور مهم في النضال الوطني وبناء الدولة الحديثة. أحزاب مثل حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، التي شكلت “الكتلة الديمقراطية”، كان لها تاريخ طويل من المعارضة والمشاركة في الحكومات المتعاقبة [1]. ومع ذلك، فإن هذه الأحزاب، وغيرها، عملت دائماً ضمن إطار يحدده القصر، الذي احتفظ لنفسه بصلاحيات واسعة في توجيه السياسات العامة وتعيين الحكومات، حتى في ظل الدساتير التي نصت على نظام ملكية دستورية [1].

لقد أثر هذا الدور المهيمن للمؤسسة الملكية على طبيعة الأحزاب السياسية في المغرب. فبدلاً من أن تكون قوى دافعة للتغيير وممثلة حقيقية للإرادة الشعبية، أصبحت الأحزاب في كثير من الأحيان مجرد وسيط بين القصر والمجتمع، أو أدوات لتصريف لحظات انتخابية عابرة [1]. هذا الوضع أدى إلى تراجع دور الأحزاب في صياغة السياسات العمومية وتقديم البدائل الحقيقية، حيث ظلت المبادرات الكبرى في يد المؤسسة الملكية.
كما أن القصر لعب دوراً في تشكيل بعض الأحزاب أو دعمها، بهدف خلق توازن في المشهد السياسي ومنع هيمنة أي تيار معين. على سبيل المثال، تأسس الاتحاد الدستوري بإيعاز من القصر في عام 1983 [1]. هذا التدخل، وإن كان يهدف إلى تحقيق الاستقرار، إلا أنه ساهم في إضعاف استقلالية الأحزاب وجعلها أكثر اعتماداً على الدعم الرسمي بدلاً من بناء قاعدة شعبية قوية.

لقد أدت هذه الدينامية إلى إفراغ العمل الحزبي من محتواه الحقيقي في بعض الأحيان، حيث أصبح التركيز على المشاركة في الحكومة وتقاسم المناصب، بدلاً من تقديم برامج سياسية واضحة ومشاريع مجتمعية قابلة للقياس والمحاسبة. هذا الجمود هو نتيجة مباشرة لهذا السياق التاريخي الذي حدد العلاقة بين المؤسسة الملكية والأحزاب السياسية في المغرب.

إعادة إنتاج الخطاب وغياب البدائل
تُعد ظاهرة إعادة إنتاج الخطاب السياسي وغياب البدائل الحقيقية من أبرز التحديات التي تواجه الأحزاب المغربية، وتُعمّق من أزمة الثقة بينها وبين المواطنين. يكاد الخطاب الحزبي يكون “نسخة مستنسخة عبر كل الأحزاب، يساريها ويمينيها وإسلاميها، إذ لا نلمس بدائل حقيقية أو تصورات مختلفة تُقنع المواطن بأن الحزب الفلاني يملك رؤية مغايرة”.

يمكن تفسير هذه الظاهرة بعدة عوامل متداخلة:
1. تأثير الشعبوية
لقد شهد المشهد السياسي المغربي صعوداً ملحوظاً للشعبوية، التي أصبحت “أسلوباً مميزاً للخطاب السياسي المغربي” [2]. هذا الصعود جاء في سياق أفول نجم التكنوقراطيين ومطالب حركة 20 فبراير بإصلاحات جذرية، مما أدى إلى تعديل دستوري أعاد للأحزاب دورها في العمل الحكومي [2]. ومع تراجع دور السياسيين العقلانيين، تقدم الشعبويون بخطاب “يفهمه” الشعب، يهدف إلى “توسيع القاعدة الاجتماعية للأحزاب” [2].

شخصيات مثل عبد الإله بنكيران (حزب العدالة والتنمية) وعبد الحميد شباط (حزب الاستقلال) وعبد اللطيف وهبي (حزب الأصالة والمعاصرة) وإدريس لشكر (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) تبنت هذا النهج [2]. ورغم أن الشعبوية قد تساهم في زيادة المشاركة السياسية، كما يتضح من ارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات من 37% عام 2007 إلى 45% في انتخابات 2011 [2]، إلا أن لها جانباً سلبياً يتمثل في “سطحية شعبوية متوارثة لا تؤثر في طبيعة الخطاب السياسي فحسب، بل تمنع الجمهور أيضاً من الفهم الكامل لما هو على المحك” [2].
يرى الفيلسوف السياسي محمد بوجنال أن هذا الخطاب “يحبذ إبقاء الشعب المغربي في مستوى الوجود الأدنى المتمثل في الهتافات والحماس والسمع والطاعة”، دون أي فهم أعمق للواقع السياسي [2]. هذا يعني أن الأحزاب، في سعيها لكسب رضا “الشعب”، تلجأ إلى شعارات عامة وكليشيهات، بدلاً من طرح سياسات عمومية واضحة ومشاريع قابلة للقياس والمحاسبة، مما يؤدي إلى إعادة إنتاج نفس الخطاب دون تقديم بدائل حقيقية

2. غياب الديمقراطية الداخلية
تُعد أزمة الديمقراطية الداخلية داخل الأحزاب المغربية سبباً رئيسياً في غياب البدائل. فكما يشير مقال “العمق”، “لا تزال القيادات التقليدية تسيطر على الأجهزة الحزبية، مما يمنع بروز وجوه جديدة وشابة قادرة على قيادة التغيير” [3]. هذا الافتقار إلى التجديد الداخلي يحد من قدرة الأحزاب على تطوير رؤى جديدة وبرامج مبتكرة تستجيب لتطلعات المواطنين المتغيرة.

عندما تكون القيادات الحزبية بعيدة عن القاعدة الجماهيرية وتركز على “العلاقات التحالفية مع السلطة والنخب الاقتصادية، بدلاً من التركيز على التواصل المباشر مع المواطنين” [3]، فإن الخطاب يصبح معزولاً عن الواقع، ولا يعكس المشاكل الحقيقية التي يعاني منها المواطنون. وهذا ما يفسر “الفجوة بين القيادة الحزبية والجماهير” التي أصبحت أكثر وضوحاً بعد انتخابات 2021 [3].

3. التركيز على المناصب بدلاً من البرامج
بدلاً من التنافس على أساس البرامج والرؤى المستقبلية، يبدو أن الأحزاب المغربية تركز بشكل أكبر على “تقاسم المناصب” و”التحالفات السياسية” [3]. هذا التركيز على الجانب التكتيكي والبراغماتي للعمل السياسي، على حساب الجانب البرنامجي والإيديولوجي، يؤدي إلى تماهي الخطابات وغياب التمايز بين الأحزاب. فإذا كانت الأحزاب لا تقدم بدائل حقيقية في برامجها، فما الذي يميزها عن بعضها البعض؟ هذا السؤال يظل معلقاً في أذهان المواطنين، ويزيد من شعورهم بأن الأحزاب “مجرد أدوات انتخابية لتصريف لحظة عابرة، دون قدرة على تحويل السياسة إلى مشروع مجتمعي مستقبلي”.

إن غياب البدائل الحقيقية وإعادة إنتاج نفس الخطاب يساهمان بشكل كبير في “عزوف أوسع، وانفصال أعمق بين السياسة والمجتمع” ، وهي ظاهرة سنناقشها بتفصيل أكبر في القسم التالي المتعلق بأزمة الثقة.

أزمة الثقة والعزوف الانتخابي ودور المجتمع المدني
تُعد أزمة الثقة بين المواطن والأحزاب السياسية في المغرب من أبرز التحديات التي تواجه النظام السياسي حالياً، وتتجلى هذه الأزمة بوضوح في ظاهرة العزوف الانتخابي المتزايد. فبالرغم من أن انتخابات 2021 شهدت ارتفاعاً طفيفاً في نسبة المشاركة (50.35% مقارنة بـ 43% في 2016)، إلا أن هذا الارتفاع كان نسبياً ولا يعكس بالضرورة تزايد الثقة في الأحزاب [3]. بل إن الإحصائيات الصادمة للانتخابات الجزئية الأخيرة، التي سجلت نسبة مشاركة ضعيفة للغاية (مثل 6.5% في دائرة المحيط بالرباط)، تشير إلى “عمق الفجوة بين الناخبين والأحزاب” [3].

أسباب أزمة الثقة:
تتعدد الأسباب الهيكلية التي تعمق من أزمة الثقة وتراجع الأحزاب المغربية:
1.غياب الديمقراطية الداخلية: كما ذكرنا سابقاً، تسيطر القيادات التقليدية على الأجهزة الحزبية، مما يمنع بروز وجوه جديدة وشابة قادرة على قيادة التغيير. هذا يولد شعوراً لدى المواطنين بأن الأحزاب لا تمثلهم وأنها مغلقة على نفسها.

2.الاعتماد على النخب والعلاقات التحالفية: أصبحت الأحزاب تعتمد بشكل أكبر على “العلاقات التحالفية مع السلطة والنخب الاقتصادية، بدلاً من التركيز على التواصل المباشر مع المواطنين”. هذا التوجه يجعل الأحزاب تبدو بعيدة عن هموم الشارع ومطالبه الحقيقية.

3.فشل الأحزاب في تلبية التوقعات: يبرز انهيار حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2021 (من 125 مقعداً في 2016 إلى 13 مقعداً) كمثال صارخ على فشل الأحزاب في تلبية توقعات القاعدة الشعبية التي كانت تعتمد عليه لتحقيق إصلاحات عميقة [3]. هذا الفشل يغذي الإحباط ويزيد من أزمة الثقة.

4.الفجوة بين القيادة والقاعدة الجماهيرية: أظهرت انتخابات 2021 بوضوح أن “قيادات حزبية تكنوقراطية بعيدة عن المشاكل الحقيقية التي يعاني منها المواطنون”. هذه القيادات تركز على التحالفات السياسية والتقارب مع السلطة، مما يزيد من التباعد بينها وبين الجماهير، خاصة في المناطق المهمشة اقتصادياً واجتماعياً.

5.ضعف مشاركة الشباب: تشير الإحصائيات إلى أن مستوى مشاركة الشباب (1830 سنة) في الانتخابات الجزئية الأخيرة كان ضعيفاً للغاية، حيث قدرت النسبة بأقل من 5% في العديد من الدوائر. هذا يعكس حالة الإحباط التي يعيشها الشباب تجاه العملية السياسية، وشعورهم بأن الأحزاب لا تعبر عن تطلعاتهم في التغيير.

المجتمع المدني كبديل:
في ظل هذا التراجع لدور الأحزاب السياسية، بدأ المجتمع المدني يشغل دوراً أكثر فعالية في المشهد السياسي المغربي. أصبحت الجمعيات الحقوقية والمنظمات الشبابية تمثل “صوتاً بديلاً للدفاع عن حقوق المواطنين والمطالبة بالإصلاحات”. وقد شهدت السنوات الأخيرة تزايداً مستمراً في عدد الجمعيات التي تركز على قضايا مثل حقوق الإنسان، التنمية المستدامة، والدفاع عن البيئة.

تلعب هذه المنظمات دوراً متزايداً في التأثير على السياسات العامة، من خلال تنظيم حملات توعية ورفع الوعي السياسي بين الشباب والمواطنين المهمشين. ففي المناطق التي سجلت نسبة مشاركة ضعيفة في الانتخابات، كانت الجمعيات المحلية هي التي قامت بتنظيم مبادرات لتلبية احتياجات المجتمع، مما يعكس “غياب الأحزاب وتركها الساحة للمجتمع المدني”. هذا التحول يشير إلى أن المواطنين يبحثون عن قنوات أخرى للتعبير عن مطالبهم والمشاركة في الشأن العام، بعيداً عن الأطر الحزبية التقليدية.

الخاتمة
تُظهر هذه الدراسة أن الأحزاب السياسية في المغرب تواجه تحديات عميقة تتجاوز مجرد التنافس الانتخابي. فإعادة إنتاج الخطاب، وغياب البدائل الحقيقية، وأزمة الثقة المتنامية بين المواطنين والأحزاب، كلها مؤشرات على جمود سياسي يهدد بتقويض المشاركة الديمقراطية. إن الدور المحوري للمؤسسة الملكية، وصعود الشعبوية، وغياب الديمقراطية الداخلية، والتركيز على تقاسم المناصب بدلاً من البرامج، كلها عوامل ساهمت في هذا الوضع.

إن مستقبل الأحزاب السياسية في المغرب مرهون بقدرتها على التجديد والإصلاح. فإذا لم تتجدد الوجوه، ولم تتجدد الأفكار، ولم تنفتح الأحزاب على الشعب، فإن مستقبلها سيكون “إعادة تدوير للأزمة ذاتها. والنتيجة: عزوف أوسع، وانفصال أعمق بين السياسة والمجتمع”.

المراجع
[1] أحزاب سياسية في المغرب. ويكيبيديا.: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%AD%D8%B2%D8%A7%D8%A8_%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9_%D9%81%D9%8A_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8
[2] جليد، محمد. (2012). صعود الشعبويين في السياسة المغربية. كارنيغي للسلام الدولي. متاح على: https://carnegieendowment.org/sada/2012/11/theriseofpopulistsinmoroccanpolitics?lang=ar
[3] أزمة ثقة بين المغاربة والأحزاب تثير المخاوف من عزوف انتخابي. . متاح على: https://al3omk.com/1032780.html

المصدر: العمق المغربي

شاركها.