أولاً: مدخل إشكالي
تحتل الأحزاب السياسية موقعاً محورياً في البناء الديمقراطي الوطني، فهي الرافعة التي أرادها الدستور أداة للوساطة والتأطير وصناعة البدائل. وقد أكّد جلالة الملك محمد السادس نصره الله، في أكثر من خطاب، على أنّ الأحزاب ليست مجرد هياكل تنظيمية أو انتخابية، بل هي مؤسسات مؤتمنة على خدمة المواطن، وإعداد نخب قادرة على الاستجابة لانتظاراته، والمساهمة الفعّالة في إنجاح المشروع المجتمعي والتنموي للبلاد.
إن جلالته يلحّ دوماً على ضرورة أن تنهض الأحزاب بدورها كاملاً في:
تأهيل النخب وتجديدها بما يضمن الكفاءة والمصداقية.
الارتقاء بالعمل الحزبي ليكون في مستوى تحديات الدولة والمجتمع.
إعادة بناء الثقة بين المواطن والسياسة، عبر الممارسة الصادقة والمسؤولة.
المشاركة في بلورة وتنزيل النموذج التنموي الجديد باعتباره أفقاً استراتيجياً للمغرب.
غير أن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح اليوم هو: كيف يمكن للأحزاب أن تجدد وظائفها حتى تستجيب لهذه الانتظارات الملكية والمجتمعية معاً؟
فالعالم يعيش تحولات عميقة: ضعف المشاركة، انفجار الوسائط الرقمية، انكماش الثقة، صعود الفردانية، وتحولات الدولة الوطنية نفسها. وهنا تتبدّى الأزمة في كون الأحزاب تبدو وكأنها تشتغل بلغة الماضي، بينما المجتمع يتحرك بلغة المستقبل.
ثانياً: الوظائف الكلاسيكية بين التآكل والتحدي
الأحزاب في بنيتها النظرية وُجدت من أجل:
1. التمثيل السياسي: جعل صوت المواطن يصل إلى مؤسسات القرار.
2. التأطير والتنشئة: تحويل الأفراد إلى فاعلين سياسيين واعين.
3. إنتاج النخب: تقديم قيادات سياسية وإدارية قادرة على التدبير.
4. بناء البرامج: صياغة البدائل وتوجيه السياسات العمومية.
لكن هذه الوظائف نفسها تتعرض اليوم لتآكل واضح:
التمثيل فقد الكثير من شرعيته مع صعود الديموقراطية التشاركية والحركات الاجتماعية غير الحزبية.
التأطير لم يعد حكراً على الحزب، بل اقتسمته شبكات التواصل والمجتمع المدني والفضاءات الرقمية.
إنتاج النخب تحوّل إلى آلية بيروقراطية داخلية تفرز الولاء أكثر مما تفرز الكفاءة.
البرامج صارت رهينة التسويق الانتخابي أكثر من كونها استراتيجيات تغيير.
بهذا المعنى، يمكن القول إن الأزمة ليست فقط أزمة فعل حزبي، بل أزمة منطق الحزب نفسه كآلية للوساطة.
ثالثاً: أزمة الوساطة و”التمثيل المزدوج”
إن جوهر الأزمة الحزبية يرتبط بما يمكن تسميته بـ التمثيل المزدوج:
من جهة، هي مطالبة بتمثيل المجتمع داخل مؤسسات الدولة.
ومن جهة أخرى، هي جزء من الدولة نفسها، تشتغل وفق قواعدها وتحت سقفها.
هذا التوتر البنيوي جعل الحزب يعيش في مساحة رمادية: فهو لم يعد قادراً على إقناع المواطن بأنه لسان حاله، ولا على إقناع الدولة بأنه أداة فعالة للاستقرار. النتيجة: اتساع دائرة اللامبالاة السياسية، وانزياح مركز النقاش نحو أشكال جديدة من الفعل (حركات احتجاجية، مبادرات مدنية، حملات رقمية…).
رابعاً: شروط تجديد الوظائف الحزبية
لكي تستعيد الأحزاب مشروعيتها، لا بد من إعادة تعريف وظيفتها، ليس فقط بالعودة إلى مهامها التقليدية، بل بخلق وظائف جديدة تنبع من روح العصر. ويمكن اقتراح أربعة مسارات للتجديد:
1. إعادة بناء شرعية الوساطة:
عبر تقوية الديمقراطية الداخلية.
تجديد آليات التشاور مع المواطنين.
التحول من خطاب عمومي عام إلى خطاب موضوعاتي (التعليم، البيئة، التشغيل).
2. تثوير وظيفة التأطير:
الانتقال من “الخطابة” إلى “المعرفة السياسية”.
إدماج العلوم الحديثة (الرقمنة، الذكاء الاصطناعي، علم البيانات) في عملية التكوين السياسي.
3. تحويل الأحزاب إلى مختبرات للسياسات:
بدلاً من أن تظل الأحزاب موسمية، عليها أن تتحول إلى مؤسسات تفكير (Think tanks حزبية).
إنتاج معرفة علمية بالسياسات العمومية وربطها بالجامعات ومراكز البحث.
4. انفتاح الحزب على المجتمع الشبكي:
إدماج الحركات الشبابية والرقمية.
الانتقال من “التنظيم الهرمي” إلى “التنظيم الشبكي” الذي يتيح الانخراط المرن.
خامساً: من “أزمة الحزب” إلى “تحول السياسة”
إن النقاش حول تجديد وظائف الأحزاب لا يجب أن ينحصر في كونها مؤسسات تعاني خللاً ظرفياً، بل يجب أن يُقرأ في سياق تحول أعمق في بنية السياسة نفسها. نحن أمام انتقال من:
السياسة باعتبارها تمثيلاً مؤسساتياً، إلى السياسة باعتبارها تفاعلاً مجتمعياً يومياً.
السياسة كـ فعل نخبة، إلى السياسة كـ تدبير جماعي تشاركي.
السياسة كـ برامج انتخابية، إلى السياسة كـ رهانات كونية (المناخ، الذكاء الاصطناعي، الهجرة).
الأحزاب اليوم ليست أمام خيار البقاء أو الاندثار فحسب، بل أمام ضرورة إعادة تعريف وجودها ذاته. فإذا استطاعت أن تجدد وظائفها وتعيد اكتشاف معناها، ستظل حيوية في البناء الديمقراطي. أما إذا بقيت أسيرة بنيتها التقليدية، فإن السياسة ستبحث عن بدائل أخرى خارجها، في الحركات الاجتماعية، وفي الفضاء الرقمي، وفي المجتمع المدني.
إن تجديد وظائف الأحزاب ليس مجرد تحديث تنظيمي، بل هو رهان حضاري يحدد شكل السياسة في المستقبل: هل تظل رهينة هياكل موروثة، أم تنفتح على أفق جديد يربط بين الدولة والمجتمع، بين المحلي والعالمي، وبين الواقعي والرقمي؟
وبهذا المعنى، فإن انتظارات جلالة الملك محمد السادس نصره الله تضع الأحزاب أمام مسؤولية تاريخية: إما أن تتحول إلى قوة اقتراحية وتأطيرية حقيقية، تسهم في إنجاح المشروع التنموي وترسيخ الثقة، وإما أن تظل في موقع المراوحة، فتفقد السياسة معناها ومكانتها في حياة المواطنين.
المصدر: العمق المغربي