احتفاء بمؤلف “سوسيولوجيا الإعلام”

قال إدريس لكريني، أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي بجامعة القاضي عياض بمراكش، إن كتاب “في سوسيولوجيا الإعلام والرقمنة”، للإعلامي مصطفى غلمان، هو نتاج بحث وتجربة، يخوض فيها الكاتب رهانا حول أسئلة عصر الإعلام والرقمنة، مستجليا حدود التقاطع بين المحمولات الإلكترونية وتبعاتها في تشكيل الوعي المجتمعي الجديد، وتحولاته القيمية المتسارعة.
وأكد لكريني، في مداخلة ألقاها بمناسبة الاحتفاء بمؤلف الإعلامي والباحث الدكتور مصطفى غلمان، في المجلس الفكري الذي نظمه الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية بمراكش، أن الأسئلة العميقة المعنية بهذا الرهان تستكشف من صميم الواقع وتربته مجموعة من الأنساق المعرفية التي ساقها الكاتب خلال رحلته الطويلة، مذ تفكيكه رؤى سوسيولوجيا الاتصال الثقافي، من خلال توصيفه مجمل أشكال الثقافة الإعلامية ومحتويات الأخير وسؤال التجنيس واصطراع الحدود بين من يسمون المؤثرين الجدد وصناع الرأي الكلاسيكيين.
وتحدث لكريني أيضا عن هموم المؤلف الفكرية، مستدلا بمشكلات الهوية وأنساقها وتقاطعاتها، ومبرزا بعض مداخل هذه المقاربة التي “كانت تعني بالنسبة للكاتب مجالا لتطوير العلاقة بين المنظومة الأخلاقية ومآزقها في سيرورة التأثيرات الجديدة لعوالم التكنولوجيا الشبكية ومثاراتها الخطيرة واستفهاماتها المقلقة”.
وحول منهجية الأكاديمي في الكتاب المحتفى به حاول الصحافي والكاتب عبد الواحد الطالبي في تقديم له تسليط بعض الأضواء على الرهانات الكبرى للأسئلة المثارة بقدر كبير من التأصيل للنظرية الأخلاقية لوسائل الإعلام، وانتقالاتها في الراهن الإعلامي الدولي والإقليمي، من “حجية الإخبار”، و”صدقية الإبلاغ”، إلى “مجابهة الأيديولوجيات العابرة” و”الانحيازات الثقافية المتجاسرة”.
من جهته خصص الباحث الدكتور عبد الحكيم الزاوي قراءة علمية واعية بسياقات الكتاب ودلالاته، كاشفا في توطئة حول الاقتصاد السيبراني “من معركة البندقية إلى معركة الكاميرا” كيف استطاع الباحث غلمان الترافع عن قضايا كبرى، تتعلق بالقارئ، “لتقديم قراءة حول الأسس السوسيولوجية التي تتأسس عليها الأنماط الإعلامية في عالم اليوم”، متحدثا عن “التباسات مجتمع الإعلام في عالم مسكون بفكرة الصراع والمحو ونفي النفي” متسائلا: “كيف يعبر الإعلام من مستوى التوثيق والتدوين والاستقصاء إلى مستوى الاستدلال وتعميق رؤية البشر للأشياء على حقيقتها؟”.
وشدد المتحدث ذاته على أن الدكتور غلمان “ينبهنا إلى أننا نصدر من واقع عام يرسم هوة جيلية، بين جيل سابق مازال يحن إلى الإعلام الكلاسيكي وجيل حالي غارق في الإعلام الرقمي الجديد”، وبين الجيلين، يضيف، “يرتسم جدار فاصل يجب فهمه أولا، والتفكير في تفكيكه. يتعلق الأمر بسديم بشري يعرف انحدارا في القيم وهبوطا متسارعا في المعايير والأطر الاجتماعية للأخلاق…”.
أما القراءة التي أعقبت هذه الإضاءات فجاءت على شكل دوائر سير ذاتية وأخلاقية، أبرز فيها كاتبها النقيب الأستاذ عمر أبو الزهور الشكل اللانهائي في أخلاق المعرفة والإبداع عند الكاتب والأكاديمي مصطفى غلمان، حيث “ينبض الفكر بالرهق الإشكالي”، وتتوافر الأسئلة على طول الزخم الذي يشاطر المبدع أحلامه، “في المعنى قبل الانكتاب”، وفي “اتساع التجربة قبل تصريفها والاستحواذ على بياناتها ودلالاتها”.
وأضاف النقيب أبو الزهور أنه أحب أن يتحدث عن الكاتب “كأخلاق وإنسان”، قبل “الخوض في تجربة التأسيس لمساهماته في الحوار وقيمه وأخلاق المعرفة وإشكالاتها”؛ ولم يفوت الفرصة دون إيجاد “مداخل مشتبكة بين غلمان الإعلامي وغلمان الشاعر”، مستحضرا جملة من المحطات التي يصعب رصدها أو وضعها في السلة نفسها، ومؤكدا أن “الشاعر غلمان لا يفوق الإعلامي والباحث في الفكر الجديد وضروراته”.
وعلى المنوال نفسه قدمت الشاعرة فوزية رفيق، رئيسة الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية بمراكش، ضيف المجلس الفكري كـ”أحد أهم الأصوات الإعلامية والشعرية الوطنية المنافحة عن أخلاق الكتابة ونظام قيم الأسرة والمدرسة الأصيلة”، معتبرة أن “غلمان يعمد على الدوام إلى ترويج وإشاعة قيم الانتماء للهوية الثقافية واللغوية بشكلها الرمزي، واستدعائها التعددية وملامسة الجوهر الإنساني والكوني”، ومشيرة إلى أن “تكريمه اليوم من قبل مفكري وأكاديميي المدينة الحمراء هو اعتراف رمزي بعطاءاته وامتداداته في الوجود المجتمعي والتقاءاته مع قيم الإخلاص للقراءة والكتابة”.
واستعادت الشاعرة والباحثة فاطمة الزهراء اشهيبة، عن مركز عناية، خلال المناسبة عينها، عطاءات الرجل وقيمته العلمية والإعلامية، وانخراطه المستمر في تعبئة مجتمع المعرفة ومشتركاته التوعوية والتربوية، مشيحة اللثام عن أهم محطات الثقافة كمشروع رؤيوي للمكرم، وعابرة بالحاضرين ضفاف علاقاته وتشعباتها، في الجامعة والإعلام والمدرسة والمجتمع المدني.
وعلى المنهاج نفسه سارت كلمة اتحاد العمل النسائي، ممثلا بالسياسية والحقوقية سعيدة الوادي، التي أضاءت جوانب هامة من نضالات الحقوقي والإعلامي المكرم، على أكثر من جبهة، مبرزة الخصوصية المشتركة لوجوه اختصاصاته وتكاملها وارتقائها، وكذا خوضها معارك منصفة ترتبط بكينونة المرأة ومؤسساتها.
وفي شهادة تاريخية وفكرية تجسد نموذجا لعبور متعدد وواع بأسئلة الراهن والعصر قالت الشاعرة والكاتبة الكبيرة مالكة العاصمي إن المحطات الكبرى لصيرورة أخلاق المعرفة عند الدكتور مصطفى غمان انطلقت منذ ما يقرب ثلاثة عقود ونيف، مسترجعة أبرز محطات العلاقة الثقافية الجامعة، وتأويلاتها الإيجابية في أنساق الراهن وتشاكلاته.
ووضعت العاصمي، خلال مداخلتها، أربعة عناوين رئيسية؛ يتعلق الأمر بحضور الإعلامي مصطفى غلمان في قلب المجتمع الثقافي وتفاعله مع أحداثه وانفعاله مع ظروفه وأحواله، ودفاعه المستميت عن الحقوق المهضومة للمظلومين وتقديم ما يناسب من الجهود والنضالات للكشف عنها واستقصائها، والدفاع عن آليات مواجهة معوقاتها وإكراهاتها، والثالث استمراره في تعبئة اللسان الإعلامي بالأخلاقية الضرورية والاقتدار المستمر من أجل نشر الوعي وتحويله إلى ورش للإصلاح والتواصل والمعرفة؛ وأما الأخير فانتقالاته الإعلامية المهنية عبر جسور تربط الكتابة بالإذاعة وسحر الإبداع بالمحتوى الهادف.
وإلى ذلك صارت شهادة وقراءة الأكاديمي الدكتور محمد ايت لعميم، الذي وضع السياق العام للتكريم في حجمه التاريخي والإنساني، موليا وجهه صوب علاقته بالكاتب مصطفى غلمان منذ ما يقارب الثلاثين سنة، “كان فيها الكلام ثقيلا بحجم الصخب الاجتماعي وانحصار الوعي الثقافي، وفي وقت كانت الثقافة مهيمنة على المجالس والمرافق العامة، على نحو مثير، وبقيم الارتباط بمصير المشترك بين المتعارفين نفسها”، مشيرا إلى أن “التأسيسات الأولى للجماعات الثقافية خلال ثمانينيات القرن الماضي شكلت إحفازات صميمة في مسار ملتقياتنا والتقاءاتنا”، ومعبرا عن فخره بمعرفة الرجل، “الذي لم يبدل تبديلا، ولم يخرج عن جوهر معرفته بالمشترك، رغم التغيرات الطارئة والأحداث المتعاقبة، في عالم يتحول بسرعة”.
ورصد الكاتب أيت لعميم، وفق ما ذكر، مجموعة مواقف سجلها تاريخ علاقته بالدكتور غلمان، من بينها التنافس والتقائية الهدف وتنوع الأصدقاء المشتركين، وهو ما شكل، يضيف، بؤرة لتفوق جيل كان يحب عن حق قيم العلم ورجاله الأفذاذ.
وساق المتحدث نفسه، انطلاقا مما عاشه مع التجربة الإعلامية والشعرية لمصطفى غلمان، جملة من المواقف التي شكلت الرؤية الفلسفية والفكرية للرجل، مستمدا ذلك من جملة دراسات ودواوين “شكلت بالنسبة لغلمان حجر الزاوية لعطاءات لا تنضب وابتعاث مستمر لفورة ممراحة وحدقة لا تكل عن ابتعاث الجديد والجدة”، حيث الإعلام جبهة للنضال والرفض، والشعر لسان للتعبير والإخلاص للقضايا الكبرى.
أما المفكر البروفيسور امحمد مالكي، العميد السابق لكلية الحقوق بجامعة قابوس بسلطنة عمان، فأفرد شهادة طويلة، من الالتزام والمسؤولية، ساقها بإحساس أصيل وواثق، تحت معطف السمو الفكري والنبل الإنساني، مذكرا بمحطات مصطفى غلمان الإعلامي عربيا ووطنيا ومحليا، وكذا مبدعا شاعرا وكاتبا مجيدا.
وأشار مالكي في شهادته إلى عناوين الخلاصة في هذا البوح السير ذاتي لعلاقة متشعبة وعميقة، صادقة وذات أس لا يتزحزح عن قول الحقيقة، متحدثا عن صفات الرجل وتوافر كل أشكال الاقتدار والتميز، انطلاقا من علاقته بالمجتمع، ومرورا بالكتابة والقراءة وامتهانه السلطة الرابعة، واستحضارا للمشتركات القيمية التي تجمع الكاتب بأصدقائه ومعارفه.
المجلس الفكري الذي حضره نخبة من المفكرين والأكاديميين والمثقفين الإعلاميين بالمدينة الحمراء عرف بالمناسبة إلقاء كلمة ختامية لعميد الدراسات الشرقية عضو أكاديمية المملكة الدكتور أحمد شحلان، ثمن فيها عطاءات المكرم مصطفى غلمان إعلاميا وعارفا ومبدعا، مبرزا الخصال القدوية الراقية للكاتب ومواقفه الحرة التي تشي بالنوعية والأصالة ومروءة الرجال الوطنيين الأوفياء الأحرار، وداعيا إلى استمرار المجتمع الثقافي في الاعتراف برجالات العلم وتقديمهم في الرهانات الكبرى للتنمية وانشغالات الأمة.
وجرى على نهج هذه الدعوة تقديم دروع وتذكارات رمزية تكريمية للدكتور مصطفى غلمان، تنسجم مع رؤية حماة اللغة العربية وأدبائها، مصرين على تحويل مثل هذه المناسبات إلى سنن لتوطين ثقافة الاعتراف والعطاء بلا حدود.
المصدر: هسبريس