يمثل كتاب “ابن بطوطة في الصين” للمستشرق الصيني البارز أ. د. وو فو قوي (عبد الكريم) إحدى المحاولات العلمية الرصينة التي تعيد استكشاف أبعاد اللقاء الحضاري بين المغرب والصين من خلال واحدة من أهم الرحلات في التاريخ الإسلامي؛ فمنذ صدوره عن دار “الملكية الفكرية” في بكين عام 2023 ظلّ هذا المؤلَّف مرجعًا مرموقًا في الدراسات التي تتقاطع فيها الجغرافيا الثقافية بالتاريخ المشترك، وجسرًا من جسور التفاعل الفكري المتواصل بين العالمين العربي والآسيوي.

يُعالج الكتاب بأسلوب يجمع بين العمق الأكاديمي والسرد التاريخي أصداء زيارة ابن بطوطة إلى الصين خلال القرن الرابع عشر، وتأثيرها المستمر في تشكيل صورة الصين في المخيال العربي، كما يُسلّط الضوء على الكيفية التي تلقّت بها النخبة العلمية والثقافية الصينية هذه الرحلة الفريدة، التي عكست، من خلال مشاهداتها الدقيقة، مكانة الصين في شبكة العلاقات الدولية للإسلام في ذلك الزمن.

ويستعرض المؤلف، الذي يُعد من أبرز الأصوات البحثية الصينية المعنية بالعالم العربي، مسار ترجمة “الرحلة” إلى اللغة الصينية، والتطور الذي شهدته خلال قرن من الجهود الأكاديمية المتواصلة؛ فقد بدأت هذه العلاقة مع أعمال الباحث الصيني تشانغ شينغ لانغ منذ عام 1918، حين اكتشف نسخة مختصرة من الرحلة، لتدخل بعدها في قلب الاهتمام العلمي الصيني ضمن ما عُرفت بمشاريع استعادة تاريخ التفاعل الآسيوي مع العالم الإسلامي.

وما يميز الكتاب هو أنه لا يكتفي باستعراض الوقائع التاريخية، بل يربطها بتحولات الوعي الثقافي في الصين المعاصرة، وكيف أصبح اسم ابن بطوطة جزءًا من ذاكرة جماعية، تستدعيه المؤسسات الأكاديمية، والمراكز الثقافية، وقطاعات الإعلام والسياحة، كلما طُرحت مسألة الجذور القديمة للعلاقات مع الدول الإسلامية، وعلى رأسها المغرب.

ويُفرد الكتاب فصولًا خاصة للحديث عن الترجمات الصينية التي صدرت منذ الثمانينيات، وأبرزها ترجمة الأستاذ ما جين بنغ (1985، 2000، 2015)، وترجمة الأستاذ لي قوانغ بين (2008، 2016)، بالإضافة إلى عدد من المختارات والدراسات النقدية التي صدرت لاحقًا في دور نشر صينية رسمية وخاصة، ما يعكس حجم الاهتمام العلمي المتزايد بمكانة الرحلة.

ومن اللافت في هذا السياق أن النسخة الكاملة من الترجمة الصينية لرحلة ابن بطوطة أُهديت رسميًا عام 1987 إلى الملك الراحل الحسن الثاني خلال زيارة رسمية للوفد الصيني إلى الرباط، حيث تم وضعها في متحف الهدايا بالقصر الملكي، في ما اعتُبر تكريمًا رمزيًا لمكانة ابن بطوطة في التاريخين المغربي والصيني على السواء. كما نالت هذه المبادرات لاحقًا تنويهًا من الملك محمد السادس، الذي أشاد بالجهود الصينية في توثيق الذاكرة المشتركة بين البلدين.

وفي تحليل محتوى الكتاب يبيّن المؤلف أن رحلة ابن بطوطة لم تكن مجرد تنقل جغرافي، بل شهادة حية على التفاهم بين الحضارات، وأن وصفه الدقيق لمدن الصين وأسواقها وثقافتها اليومية كان بمثابة نافذة أولى أطلّ منها القارئ العربي على الشرق الأقصى بلغة مألوفة، فساهم في بناء صورة إيجابية عن الصين استمرت قرونًا.

كما يُخصص الكتاب مساحة لتتبع آثار هذه الرحلة في الإنتاج العلمي الصيني الحديث، مستعرضًا كيف تحوّلت “الرحلة” إلى نص مرجعي ضمن برامج التعليم الجامعي، ومادة ثقافية تُستخدم في الترويج للسياحة الثقافية بين الصين والمغرب، كما جرى إدراجها في “مشروع ترجمة ونشر الكلاسيكيات” المدعوم من السلطات الثقافية الصينية.

ويبرز الكتاب أيضًا الدور الذي أدّته هذه الأعمال في تقريب الشعوب وتجاوز الصور النمطية، مستشهدًا بحالات من التبادل الثقافي الأكاديمي بين الجامعات المغربية والصينية، ومذكرات تفاهم قائمة على مشاريع بحثية ذات صلة بالتراث المشترك، من بينها ورش حول “الطريق البحري للحرير” و”رحلات الرحّالة المسلمين في آسيا”، في إطار رؤية الصين لتعزيز انخراطها الثقافي في العالم الإسلامي من منظور “القراءة المتبادلة” لا “التصدير الأحادي للمعرفة”.

ولا يغفل الكتاب الأبعاد السياسية للعلاقة، مشيرًا إلى أن استحضار ابن بطوطة في الخطاب الرسمي والثقافي بين البلدين، سواء عبر الهدايا الرمزية أو الاحتفاءات الأكاديمية، يعكس وعيًا مشتركًا بضرورة ترسيخ الجذور التاريخية في بناء المستقبل، بعيدًا عن الاصطفافات الجيوسياسية، وبعيدًا أيضًا عن ضجيج المصالح العابرة.

ويمكن اعتبار كتاب “ابن بطوطة في الصين” تتويجًا لمسار طويل من العمل العلمي الذي يجمع بين البحث الوثائقي والوعي الإنساني، كما يعكس قدرة الباحث الصيني على فهم أعمق للثقافة العربية، بما يتجاوز الصورة التقليدية للمستشرق، ليقدّم نموذجًا للحوار الحضاري المتكافئ، المبني على الاحترام المتبادل والمعرفة الدقيقة.

وبالنظر إلى خلفية مؤلفه، الذي يشغل مناصب أكاديمية واستشارية رفيعة في مؤسسات صينية معنية بالشرق الأوسط، ويُعد عضوًا في معهد العلوم والتقاليد الصينية الدولية ومجمع الكتاب الثقافي الصيني، فإن الكتاب لا يُمثّل فقط عملاً فكريًا، بل أيضًا تعبيرًا عن مسار طويل من الانشغال الثقافي بالتاريخ العربي الصيني، في بعده المغربي على وجه الخصوص.

المصدر: هسبريس

شاركها.