إغتيال نصرالله وتأثيرات الموقف الإيراني
بمختلف المقاييس من كل الدول على مستوى العالم سياسياً، والقنابل التي استخدمت في عملية الاغتيال من حيث الوزن 2000 طن والنوع، وهو الأحدث، لم يستعمل عدد منها من قبل عسكرياً. كل ذلك يوحي ويدل على أن وزن حسن نصر الله ثقيل في المعادلة الإقليمية، تفوق وزن رؤساء بعض الدول، فقد تمكن من التحول من زعيم حزب ديني في بلد صغير مثل لبنان إلى رسم للخريطة السياسية الإقليمية المؤثرة عبر البحار.
فقد تحول إلى محور بذاته، وذلك بفعل التاريخ والعمل التراكمي على خط يثير بطبيعته رغبة المتابعة ولفت الأنظار إلى نفسه، وهو خط المقاومة، المقاومة لدولة تحتل أرضاً هي من الأقدس عند المسلمين. وتحول إلى شخصية، كان كلامه يؤخذ من لدن المنضويين تحت عَلَمه الفكري والسياسي كتوجيهات، وكان قادراً على التأثير في سياسات خارجية لدول المنطقة. نصر الله كان لدى الشيعة العرب بدأ يضيق من مكانة المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، الذي ينظرون إليه كولي أمر المسلمين، وهو المطلوب قطع رأسه منذ ثلاثة عقود وأكثر بسنتين. أخيراً وقع بين نيران الإسرائيليين. إن الإنسان تأخذه الحيرة وتلف به من هذا السقوط الاستخباراتي اللامحدود لحزب الله أمام الموساد، لكن السؤال الذي يبحث الجميع عن جواب تقريبي له هو: ما هو تأثير الاغتيال وكيف يكون الرد؟
لا شك بأن كل التهديدات التي أطلقها نصر الله كانت صحيحة، بمعنى أن الحزب يمتلك القدرة العسكرية على تنفيذ تلك التهديدات، وأن يشل الحياة في إسرائيل من الحركة، لكنه لم يفعل، ولا مؤشرات أمام العين تقرأ على أن الرد المزلزل قادم، سوى مؤشرات غير حاسمة. فبحق الله، ماذا يجري؟
إن القوة العسكرية تقف دائماً خلفها السياسة وموازينها، والسياسة التي تقف خلف القوة العسكرية لحزب الله لا تنحصر بالداخل اللبناني والتقديرات المعنية بالوطن اللبناني، وإنما بدولة هي من تمول الحزب وتزوده بكل ما يحتاجه. هذه الدولة هي إيران، وهي دولة حساباتها عريضة وكثيرة ومعقدة.
إن حزب الله قد تريث كثيراً في تنفيذ تهديداته حين كان قادته يسقطون تباعاً بالصواريخ الإسرائيلية، وعلى خلاف ما كان يتوقعه المراقبون من أن يكون الرد موجعاً لإسرائيل، كل إسرائيل، لكنه لم يفعل شيئاً بمستوى الضربات التي تلقاها، والأسئلة كانت تتوالى من دون جواب، لكن الجواب البعيد الذي يأتي به التفكير الواسع هو أن الإيرانيين قد لا يريدون من حزب الله توجيه الرد الموجع والمناسب لتل أبيب، والتعليل المرجح هو أن الأمريكيين والإسرائيليين قد يكون أبلغوا الإيرانيين بأنه وفي حال تنفيذ حزب الله قصفاً صاروخياً مدمراً لتل أبيب على وجه التحديد، فإن الضربة ستكون في طهران وليست في الضاحية الجنوبية. ما يعني أن رد محور المقاومة متعلق بالموقف الإيراني وهو الأصل فيما تتوقعه إسرائيل وغير إسرائيل على مستوى العالم. وبالنظر إلى القرب من إيران وبقراءة التجارب، والصراعات الجارية في الداخل الإيراني بين الأجنحة التي تختلف على سياسات الدولة الخارجية، وهي اختلافات لا تخفى على ناظر، قد أثرت كثيراً ونجح رئيس الحكومة الإسرائيلية في استغلالها، بعد أن علم أن الإيرانيين مختلفون فيما بينهم، وأنهم لا يردون. ولم يكترث الإسرائيليون كثيراً بالتهديدات الإعلامية التي لا تتجاوز الأسماع بصوتها العالي. والموقف الإيراني في ظل التغيرات التي حصلت خلال الشهور الأربعة الماضية، يمكن تحديده بالتالي:
إن الحاكمين في إيران من خارج مكتب المرشد الأعلى يرون السياسة الخارجية بشكل مختلف. فحسب محمد جواد ظريف، كما يقول في كتاب “سعادة السفير”، إن البعد المذهبي الديني لإيران أعطاها مساحة واسعة من الجغرافية السياسية في المنطقة أكبر مما يمكن تحملها، أي أوسع مما يمكن لليد الإيرانية الرسمية أن تحتويها. ويبدي “ظريف”، الذي يشغل منصب مستشار الرئيس الإيراني “مسعود بزيشكيان” للشؤون الاستراتيجية، رغبته في تخفيف هذا الحمل، وإعجابه بالسياسة التركية التي تنتهجها الدولة التركية إزاء القضية الفلسطينية. يصف جواد ظريف ذلك بالتعامل العقلاني مع القضايا الخارجية، أي التعامل المدني والبعد عن المجالات العسكرية وتجنب التمدد العضوي في المنطقة. وفي لقاء خاص من نيويورك مع قناة الجزيرة في 2592024، في جواب عن سؤال الرد الإيراني على اغتيال إسماعيل هنية، قال بزيشكيان إن التحرك الانفرادي الإيراني غير مفيد، وإنما التحرك الجماعي مع دول إسلامية أخرى معنية بالقضية الفلسطينية. بكلمة أخرى، إن التحرك الإيراني ليس وارداً، وقد قال قبل مقابلته مع الجزيرة في أول مؤتمر صحفي في طهران: إنهم قتلوا إسماعيل هنية لإستدراجنا إلى حرب، لكننا ضبطنا أنفسنا. ومفهوم كلامه أن الموقف الإيراني الصحيح الذي فوت الفرصة على إسرائيل هو ضبط النفس، وليس الرد. هذه الرسالة الإيرانية الناعمة إلى الخارج أوضحت أن اتجاه السياسة الإيرانية ليس هو ذاته الذي يتوقعه منه الأصدقاء، ولا حتى ما تقوله قراءات الأعداء. المثال عند القيادة الإيرانية الحالية هو النموذج التركي في التعاطي مع الحرب على غزة، وليس أكثر من ذلك ولا أبعد منه.
أما بالنسبة لحزب الله والأيام المقبلة، فأمر محير، هو الآن أمام مصداقية أكثر من طهران. ربما طهران الدولة قادرة على الخروج من هذه الأزمة والإنكفاء على نفسها، لكن حزب الله مجال عمله صغير داخل بلد صغير الحجم. فهو إن لم يردّ، سيفقد كل ما لديه من الوزن حتى داخل لبنان، ويتحول إلى حزب ربما أقل من حركة الأمل، ولا تسعفه الدعم الإيراني على القيام من جديد. وبالتالي، الرد حتى مع الرفض الإيراني يكون الأفضل له، حتى لو جعله ذلك حزباً لبنانياً كالأحزاب الأخرى، لكن يكون ذلك بكامل الهيبة والحضور والقوة التي يكنها التباهي بها. فهو قد دفع الثمن من أغلى ما يملك، زعيمه الذي حول من حزب في بقعة صغيرة إلى كيان ذي تأثير في الشرق الأوسط.
إن تأثير غياب نصر الله على القضية الفلسطينية يكون مؤثراً على المستوى البعيد. فالاندفاع للانخراط في طوفان الأقصى وفتح جبهة الشمال لم يكن بدفع من إيران، أو لأنه رافع لواء المقاومة أو المحور، بقدر ما هو قناعة تامة كانت نابعة من عقل حسن نصر الله. فقد يخفف خليفته من الحدة أو يحافظ عليها، لكن التخفيف تقدير قاتل في هذه المرحلة التي لا يمكن العودة منها إلى الوراء، بعد امتلاك الحزب كل الذرائع والتبريرات لشن حرب على تل أبيب.”
المصدر: العمق المغربي