إبراهيم اسويح يستعرض رهان التدبير المائي في تأكيد السيادة الغذائية للمملكة
يرى إبراهيم بلالي اسويح، عضو المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، أن تخصيص الملك محمد السادس خطاب العرش الأخير للحديث عن مسألة حيوية واستراتيجية للأمن المائي للمملكة، لم يكن بالصدفة في ذكرى تتزامن مع ربع قرن من توليه مقاليد الحكم وما يتطلب الأمر من سرد لحصيلة الإنجازات والمكاسب التي غيرت ملامح ومكانة المغرب الواعدة على مختلف الأصعدة سواء داخلياً أو خارجياً.
وأكد المحلل السياسي ذاته، في مقال توصلت به جريدة هسبريس الإلكترونية بعنوان “رهان التدبير المائي وتأكيد السيادة الغذائية للمملكة”، أن “المثير للانتباه أن مضمون الخطاب الأخير كان أغلبه موجها لوضع الأسس الحقيقة لمقاربة ملكية حول الإنتاج والإجهاد في تدبير السياسة المائية الوطنية تتجاوز جلسات عمل كانت متتالية مع المهنيين والفاعلين المعنيين، كما كان يحدث من قبل، إلى قضية محورية وطنية تحظى بهذا الحجم من الاهتمام والتعبئة الساميين”.
نص المقال:
تخصيص عاهل البلاد جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، خطاب العرش المجيد الأخير الموجه للأمة للحديث عن مسألة حيوية واستراتيجية للأمن المائي للمملكة لم يكن بالصدفة في ذكرى تتزامن مع ربع قرن من تولي جلالته مقاليد الحكم وما يتطلب الأمر من سرد لحصيلة الإنجازات والمكاسب التي غيرت ملامح ومكانة المغرب الواعدة على مختلف الأصعدة سواء داخلياً أو خارجياً.
المثير للانتباه أن مضمون الخطاب الأخير كان أغلبه موجها لوضع الأسس الحقيقة لمقاربة ملكية حول الإنتاج والاجهاد في تدبير السياسة المائية الوطنية تتجاوز جلسات عمل كانت متتالية مع المهنيين والفاعلين المعنيين، كما كان يحدث من قبل، إلى قضية محورية وطنية تحظي بهذا الحجم من الاهتمام والتعبئة الساميين.
السياسة المائية الوطنية كانت ومازالت تهدف إلى ضمان حق الولوج إلى الماء لجميع المواطنات والمواطنين وفقاً لأهداف التنمية المستدامة، لا سيما الهدف السادس منها، وكذلك طبقا لأحكام الدستور المغربي لسنة 2011، كما أن تعزيز المخزون الاستراتيجي من الماء لم يعد خيارا أو توجها تدبيريا، بل ضرورة ملحة ووجودية في ظل التغيرات والتحديات السابقة، مع العلم أن المملكة تعد من بين الدول التي تتسم بمحدودية مواردها المائية وهشاشتها المناخية في ظل تباين نسبة التساقطات المطرية، مما سيساهم في تناقص الموارد المائية السطحية واستنزاف الفرشة المائية.
السياسة الملكية الجديدة ترتكز على ثلاثة دعائم رئيسية تهم تسريع تعبئة الموارد المائية التقليدية، وتثمين الموارد المائية غير التقليدية (تحلية مياه البحر وإعادة استخدم مياه الصرف الصحي)، وتدبير الطلب على الماء مع مواكبته بإجراءات التحسيس والتواصل، بل والزجر للاقتصاد في الماء.
والواضح أن كل ذلك يتماشى مع أهداف النموذج التنموي الجديد للمملكة الذي يتوخى تحقيق السيادة الاقتصادية لبلادنا، التي تستلزم من بين ركائزها التنمية الترابية المرنة وأيضا إرساء السيادة المائية مسبقا، وهو ما يفرض في سياق تغير المناخ الراهن الانتقال نحو البنيات التحتية المائية المرنة.
يكاد يكون من المرجح أن التدخل الملكي أملته التحديات الكبرى التي مازالت المنظومة المائية بالمغرب تواجهها، والتي ترتبط أساسا باستفحال الظواهر المناخية وما يترتب عنها من ندرة الموارد المائية وعدم تكافئها مع الحاجات المتزايدة بسبب النمو الديمغرافي ومتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لا سيما في القطاع الفلاحي.
لا جدال أن سياسة السدود الكبرى التي بدأت منذ أكثر من 50 عاماً واستمرت بشكل متواصل منحت المغرب تراثا مائيا يتكون من 154 سدا كبيرا بقدرة تخزين مياه تبلغ حوالي 20 مليار متر مكعب وبنية تحتية للري مرتبطة بالسدود تبلغ مساحتها حوالي 700 ألف هكتار
كما أن البنية التحتية للنقل المائي بين الأحواض بطول إجمالي يبلغ 785 كيلومترا وبصبيب 175 مترا مكعبا في الثانية، تضمن توزيعا أكثر عدالة للمياه بين المناطق الغنية بالمياه والمناطق الأقل ثراء بالمياه والمزودة بالمياه؛ فخلال السبعين عاما الماضية شهدت المملكة عشرين موسما للجفاف إلى جانب الارتفاع المتزايد لدرجات الحرارة بسبب التغيرات المناخية، ورغم أن الجفاف ليس ظاهرة طبيعية جديدة على المغرب، إلا أن النمو السكاني جعل تأثيره أخطر وأكبر.
كما أن تصنيف المغرب ضمن الدول التي تعاني من الإجهاد المائي، إذ تقدر الموارد المائية السطحية في السنة المتوسطة بـ 18 مليار متر مكعب أما المياه الجوفية فتمثل 20 في المائة من الموارد المائية التي تتحصل عليها المملكة، فرض إعادة حسابات الأولويات.
ومن دون شك كذلك، فإن للتجهيزات الهيدرو ــ فلاحية الجماعية للدوائر السقوية الصغرى والمتوسطة، المتمثلة في شكل مستجمعات المياه وعتبات تحويلها على طول الأنهار والخطارات وإمدادات مياه الري وتوزيعها، تمكن من توجيه المياه لري مايصل إلى 440000 هكتار عبر كامل التراب الوطني، خاصة بالمناطق الجبلية والواحات.
وتنضاف إلى مشاريع الري الجماعية هذه، مشاريع ري فردية يتم تنفيذها بمبادرة خاصة، وذلك بشكل رئيسي في شكل معدات الولوج إلى المياه الجوفية وتجهيز الضيعات، فكل هذه التجهيزات الهيدرو ــ فلاحية تجعل من الممكن ري ما يصل إلى 1,6 مليون هكتار كان قد تم تجهيز ثلثيها من قبل السلطات العمومية.
يتضح أن البوصلة الملكية تتوجه هذه المرة لجعل المجال والإنسان المغربي في قلب الاستدامة العالمية التي تعيد ترتيب الأولويات في تدبير الموارد، سواء أكانت سطحية أو جوفية، وفي مقدمة ذلك المياه التي تراهن المملكة على الانتقال بها من مرحلة تدبيرية لسياسة تلبي متطلبات التنمية إلى استشراف المستقبل الواعد للمملكة، في جعل التكامل بل كذلك التضامن المجالي بين الجهات كرافعة حقيقية لتنمية متوازنة بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية التي تروم لا محالة تعميم وتسريع البرامج المتعلقة بالنجاعة المائية في مجال اقتصاد مياه السقي وتثمين الموارد المائية، وخاصة من خلال تسريع البرنامج الوطني لاقتصاد الماء في السقي لتحويل السقي بالجاذبية إلى أنظمة مقتصدة في الماء (التقطير/الرش بالتغطية الكاملة)، ودعوة جلالته لإعداد برنامج وطني لاقتصاد الماء الشروب والماء المستعمل في الصناعة بأهداف وطنية مرقمة يجب بلوغها في أفق 2030.
وهو أمر لن يتأتى بالارتكان إلى سياسة قطاعية منفردة رغم الجهد الجهيد (ترسانة قانونية منذ فجر الاستقلال كان آخرها قوانين 1095، و1536، و1535 المتعلق بالسدود، وما رافق ذلك من البناء المؤسساتي للوكالات المستقلة للماء ووكالات الأحواض المائية) خلال السنوات الماضية، كان لا بد من تعبئة وطنية شاملة لأعلى هرم في سلطة البلاد للنهوض بالشراكة بين القطاعين العمومي والخاص في قطاع الماء عبر إرساء آليات تحفيزية ضرورية لتطوير الفاعلين المغاربة الخواص، المتخصصين في مجالات تعبئة وتطهير وتصفية وتحلية وإنتاج الطاقة المائية لجعل هذا الورش الملكي منصة للالتقائية؛ لأن ذلك مرتبط بخلق الطاقات المتجددة النظيفة عبر محطات التحلية التي يراهن عليها المغرب عبر مجموع ترابه الوطني (القدرة على تحلية مياه البحر في أفق 2030 قد تصل إلى 510 ملايين متر مكعب سنوياً)، الذي لم يعد يقتصر على ريادة محطة تحلية الدار البيضاء، بل إن استكمال ربط الأقاليم الجنوبية بالشبكة الكهربائية الوطنية في إطار النموذج التنموي الجديد لهذه الأقاليم، الذي كلف استثمارات ضخمة بمليارات الدرهم، عزز واقعية اندماج هذه الربوع في الوحدة الوطنية المائية وكرس السيادة الغذائية للمملكة بكامل تجلياتها، من تعزيز القدرة على التكيف مع تغير المناخ الى تأكيد السيادة الغذائية للمملكة.
المصدر: هسبريس