أي أساس فقهي وقانوني لإلزام نزلاء المؤسسات السياحية بالإدلاء بعقود الزواج؟
في هذا المقال، يناقش الباحث في الفكر الإسلامي، محمد عبد الوهاب رفيقي، الأساس الفقهي والقانوني لإلزام نزلاء المؤسسات السياحية بتقديم عقود الزواج.
وأثيرت هذه القضية بعدما أعلن وزير العدل عبد اللطيف وهبي، في مجلس المستشارين موقفه حول المطالبة بعقود الزواج في الفنادق، مما أدى إلى ردود فعل متباينة بين مؤيدين ومعارضين.
ويستعرض رفيقي، من خلال هذا المقال في جزئه الأول، الأسس والمعايير الدولية والدستورية التي تحمي الحياة الخاصة للأفراد، مشيرًا إلى أن هذه الحماية تعتبر جزءً من حقوق الإنسان الأساسية، مستندا في ذلك إلى مواد من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية التي وقع عليها المغرب، والتي تضمن حرمة الحياة الخاصة للأفراد.
كما تناول رفيقي الموضوع من الجانب الفقهي والشرعي، مستعرضًا الرؤى الدينية حول حماية الخصوصية ومدى توافقها مع المطالبات القانونية الحديثة، ليستنتج عدم وجود أساس قانوني لإلزام نزلاء المؤسسات السياحية بتقديم عقود الزواج، مؤكداً أن هذه الممارسة تتعارض مع القوانين الوطنية والمعايير الدولية والدستورية التي تضمن حقوق الإنسان وحماية الحياة الخاصة.
وفي ما يلي نص المقال كاملا:
الجزء الأول
أثار جواب السيد وزير العدل بمجلس المستشارين حول مسألة المطالبة بعقود الزواج بالفنادق لغطا كبيرا وردود فعل مختلفة، ما بين مرحب بموقف الوزير واعتباره متناسقا مع المبادئ الدستورية ومقاصد الدين الشرعية ومستجيبا لمضامين القوانين الوطنية، وما بين متوجس من الموقف بدعوى التشجيع على العلاقات الجنسية خارج الزواج والمس بهوية المغاربة وأعرافهم الاجتماعية، وما بين هذا وذاك بعض من لا هم لهم إلا تصفية الحسابات سياسية كانت أو إيديولوجية، و استغلال كل موقف للوزير مهما كان قانونيا ومنطقيا لشن وابل من التهم والمجازفات والمغالطات، بعيدا عن أي نقاش علمي رصين، أو ترافع فكري يشكل مادة يستفيد منها المختص والمتابع.
لذلك أحببت هنا أن أعالج هذا الموضوع من مختلف جوانبه، سواء منها ما كان فقهيا أو قانونيا، مساهمة مني في هذا الجدل، وإعمالا لمبدأ التدافع الفكري الذي من شأنه تنوير المهتمين، واستفزاز مواقفهم لما فيه من إثراء للحقل المعرفي، وتجويد للنقاش العمومي.
وبناء عليه سأتناول في هذا المقال الأسس والمعايير الدولية والدستورية لحماية الحياة الخاصة للأفراد (أولا)، ثم أحاول مقاربة الموضوع من جانبه الفقهي والشرعي(ثانيا)، لأنتهي إلى انعدام الأساس القانوني لإلزام نزلاء المؤسسات السياحية وأشكال الإيواء الأخرى بالإدلاء بعقود الزواج (ثالثا).
أولا: الأسس والمعايير الدولية والدستورية لحماية الحياة الخاصة للأفراد
المعايير الدولية لحماية الحياة الخاصة للأفراد:
بداية لا بد من الإقرار بأن احترام الحياة الخاصة للأفراد، هو جزء لا يتجزأ من احترام حقوق الانسان، ذلك أن حماية هذا الحق، هو من الضمانات المتصلة بحماية كرامة الإنسان من أي انتهاك، وهو يشمل عدة حقوق تتصل بحرمة المسكن، وسرية المراسلات والاتصالات والمعطيات الشخصية باعتبارها من مكونات شخصية الفرد.
وفي هذا الإطار، فقد أجمعت كل الصكوك الدولية، على حرمة الحياة الخاصة، إذ نصت المادة 12 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان على أنه، “لا يجوز تعريض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، ولا لحملات تمس شرفه وسمعته، ولكل شخص الحق في أن يحميه القانون من مثل ذلك التدخل، أو تلك الحملات”.
وإذا كان معلوم أن الإعلان العالمي لحقوق الانسان، لا يكتسي طابعا إلزاميا للدول، إلا أنه يعتبر وثيقة تاريخية هامة في تاريخ حقوق الانسان، بالنظر إلى دوره الجوهري في تمهيد الطريق لاعتماد عدد كبير من الاتفاقيات الدولية والإقليمية لحقوق الانسان، والتي أولت أهمية كبيرة لاحترام الحياة الخاصة للأفراد. وفي هذا السياق، فقد جاء العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، بمقتضيات قريبة لما تضمنته المادة 12 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان، حيث أورد في المادة 17 منه أنه ” لا يجوز تعريض أي شخص، على نحو تعسفي أو غير قانوني لتدخل في خصوصياته أو شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته، ولا لأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته. وأنه من حق كل شخص أن يحميه القانون من مثل هذا التدخل أو المساس”. وهو نفس الأمر الذي أكدته العديد من الاتفاقيات الدولية، التي يعتبر المغرب طرفا فيها، مثل المادة 16 من اتفاقية حقوق الطفل، والمادة 22 من اتفاقية الأشخاص ذوي الإعاقة، وغيرها من الوثائق ذات الصلة…
والملاحظ من خلال الاطلاع على هذه الاتفاقيات، أنها اعتمدت نفس المقتضيات المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الانسان المتعلقة بحماية الحق في الحياة الخاصة للأفراد. وبذلك، فقد أعطت لهذا الحق طابعا إلزاميا بالنظر إلى أن الدول التي صادقت عليها، تصبح ملزمة بملاءمة تشريعاتها الداخلية مع ما ورد في هذه الاتفاقيات، وتقديم تقاريرها الدورية بشكل منتظم أمام اللجان المنبثقة عنها، المكلفة برصد تطبيق الدول لبنود هذه الاتفاقيات، لإبراز كيفية إعمال الحقوق الواردة فيها.
ولا يخفى أن دور هذه اللجان في رصد تنفيذ المقتضيات الواردة في الاتفاقيات، لا ينحصر فقط في تلقي التقارير الدورية من قبل الدول الأطراف، بل يتجاوز ذلك إلى فحص تلك التقارير وتوجيه مخاوفها وانشغالاتها وتوصياتها إلى الدول الأطراف، وملاحظاتها الختامية، فضلا عن تفسير بنود الاتفاقيات من خلال التعليقات العامة التي تقرر اعتمادها بشأن مواضيع محددة تتناول جوانب من هذه الاتفاقيات، بهدف مساعدة الدول الأطراف على الوفاء بالتزاماتها بموجب هذه الاتفاقيات.
وانطلاقا من كل ذلك، فإن حرص المملكة المغربية على مواصلة انخراطها في منظومة حقوق الانسان، والوفاء بالتزاماتها المترتبة عن ذلك، يتعارض بشكل مطلق مع استمرار بعض الممارسات التي تنتهك الحياة الخاصة للأفراد، خارج إطار القانون، والتي تسمح للمؤسسات السياحية وأشكال الإيواء الأخرى، بالمطالبة بعقود الزواج من الزبائن، رغم عدم وجود أي نص قانوني يبرر ذلك، بل إن هذه المطالبة تتعارض أيضا، بشكل مطلق مع دستور المملكة.
وبالنظر إلى أن حماية الحياة الخاصة تعنى بحماية الشرف والسمعة الشخصيين، فإن اللجنة المعنية بحقوق الانسان، في تعليقها العام رقم 16، المتعلق بالحق في حرمة الحياة الخاصة، أوصت الدول الأطراف في العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، بضرورة اعتماد تدابير تشريعية وغيرها من التدابير لإعمال الحظر المفروض على التدخل في خصوصية أي شخص، أو في شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته أو لأي حملات لا قانونية تمس بشرفه أو سمعته، مؤكدة على أهمية إيلاء العناية اللازمة للمعلومات المتعلقة بالأسلوب الذي تضمن به السلطات التشريعية أو الإدارية أو القضائية، والأجهزة المختصة في الدولة بوجه عام احترام هذا الحق، وتوفير التشريعات الكافية لتحقيق هذا الغرض.
كما أوصت كذلك باتخاذ التدابير اللازمة لتمكين أي إنسان من أن يحمي نفسه بصورة فعالة ضد أي اعتداءات غير قانونية تحدث بالفعل وتزويده بوسيلة انتصاف فعالة ضد المسؤولين عن ذلك.
وعلاوة على ذلك، فقد أوصت المقررة الخاصة المعنية بحماية الحق في الخصوصية، في تقريرها المرفوع إلى الجمعية العامة بتاريخ 20/07/2022، في شأن الخصوصية وحماية البيانات الشخصية، بضرورة الالتزام بمبدأي الشفافية والشرعية في معالجة المعطيات الشخصية، كما أوصت بأن تقتصر أنشطة المعالجة على الوفاء بالأغراض المشروعة التي جمعت لأجلها هذه البيانات.
وانطلاقا مما تقدم، وبالنظر إلى أن إلزام الزبائن بالإدلاء بعقد الزواج كشرط للولوج للمؤسسات السياحية، يعتبر شكلا من أشكال المعالجة للبيانات الشخصية طبقا للتعريف الذي جاء به القانون رقم 09.08 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي، وبالتالي فإنه يتنافى مع كل المعايير الدولية المشار إليها، كما يتعارض مع صريح القوانين الوطنية، بل إنه يشكل أفعالا يمكن أن تترتب عنها مساءلة قانونية وفق ما سنبينه.
الأسس الدستورية لحماية الحياة الخاصة للأفراد:
إن إعلان التزام المملكة المغربية تشبثها بحقوق الانسان كما هي متعارف عليها عالميا، لم يكن من باب الترف، أو المزايدات، بل هو ضمانة دستورية أساسية جاءت للتأكيد على حرص المغرب على حماية حقوق الانسان، كما هي متعارف عليها عالميا، وعلى عزمه على مواصلة انخراطه في منظومة الأمم المتحدة لحقوق الانسان.
ولتأكيد هذه الإرادة، فقد خصص دستور 2011 الباب الثاني منه كاملا للحريات والحقوق الأساسية، كما نص في الفصل 175 منه على أن الأحكام المتعلقة بالمكتسبات في مجال الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور لا يمكن أن تكون محل مراجعة دستورية، فضلا عن تخصيصه عدد من الفصول الدستورية لضمان التمتع بالحقوق والحريات الأساسية.
وفي هذا الإطار، وبالنظر إلى أهمية الحق في حماية الحياة الخاصة للأفراد، باعتباره من الحقوق الأساسية للإنسان التي تستوجب الحماية، فقد حرص الدستور على أن يشمل هذا الحق بحماية دستورية، حيث نص في فصله 24 على أن: “لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة. ولا تنتهك حرمة المنزل، ولا يمكن القيام بأي تفتيش إلا وفق الشروط والاجراءات التي ينص عليها القانون. لا تنتهك سرية الاتصالات الشخصية، كيفما كان شكلها، ولا يمكن الترخيص بالاطلاع على مضمونها أو نشرها، كلا أو بعضا، أو باستعمالها ضد أي كان، إلا بأمر قضائي، ووفق الشروط والكيفيات التي ينص عليها القانون. حرية التنقل عبر التراب الوطني والاستقرار فيه، والخروج منه، والعودة إليه، مضمونة للجميع وفق القانون”.
خلاصة الأمر، إن إلزام نزلاء المؤسسات السياحية وأشكال الإيواء الأخرى، بالإدلاء بعقود الزواج، كشرط للسماح لهم بالولوج إلى هذه المؤسسات، يعتبر انتهاكا واضحا لحياتهم الخاصة، التي تشكل حقا من حقوق الانسان المحمية دستوريا، لاسيما، أن ديباجة دستور 2011 جاءت واضحة بالتزام المملكة المغربية بحماية منظومة حقوق الانسان، والتشبث بها كما هي متعارف عليها عالميا، وحسمت النقاش في جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الراسخة، تسمو فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملائمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة.
وانطلاقا من هذه الاعتبارات الدستورية، فإنه لا يمكن الوفاء بالالتزامات المعبر عنها بشكل صريح في ديباجة الدستور، في ظل استمرار هذه الممارسات المخالفة لصريح القانون، والمنافية للمعايير الدولية لحماية حقوق الانسان، ولالتزامات المملكة المغربية بحماية حقوق الانسان كما هي متعارف عليها عالميا.
* باحث في الفكر الإسلامي
المصدر: العمق المغربي