لم يكن صدور قرار مجلس الأمن رقم 2797 بشأن قضية الصحراء حدثا عابرا في سجل التعاطي الدولي مع هذا النزاع؛ بل شكل لحظة مفصلية أكدت من جديد مركزية المسار السياسي باعتباره الخيار الأوحد للحل، وكرّست في الآن ذاته تزايد القناعة الدولية بأن الحكم الذاتي الذي يقترحه المغرب منذ سنة 2007 يمثل الحل الأكثر واقعية وقابلية للتطبيق. وقد جاء القرار الجديد في سياق دولي معقد، يتسم بتوازنات حساسة على مستوى مجلس الأمن؛ لكنه حمل في طياته رسائل واضحة: دعم جهود ستيفان دي ميستورا، المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، والتشديد على الواقعية والبراغماتية، والإشادة المتزايدة بالمبادرات الجادة وذات المصداقية. وسط هذه التحولات، يعود النقاش التحريري حول طبيعة الحكم الذاتي في التجارب الدولية، ومدى ملاءمة كل نموذج للخصوصية المغربية.
منذ عقود، كان مفهوم الحكم الذاتي مثار تجارب سياسية متعددة عبر العالم. ففي أوروبا، شكلت كل من إسبانيا وألمانيا نموذجين راسخين لأنظمة لا مركزية تقوم على توزيع واسع للسلطات بين المركز والجهات. وعلى الطرف الآخر من العالم، تبرز هونغ كونغ كنموذج فريد يجمع بين الانتماء السيادي لدولة كبرى، الصين، وبين استقلال اقتصادي وتشريعي واسع. وإذ تعود قضية الصحراء إلى واجهة النقاش اليوم، يبدو ضروريا إعادة فتح مقاربة مقارنة رصينة بين هذه النماذج، واستجلاء حدودها وفرصها، قبل العودة إلى مقترح الحكم الذاتي المغربي لسنة 2007 الذي شكّل منعطفا حقيقيا في مسار النزاع.
يُقدم النموذج الإسباني واحدا من أغنى التجارب في العالم فيما يتعلق بالحكم الذاتي، خاصة في كاتالونيا والباسك. يعتمد هذا النموذج على منح الأقاليم اختصاصات واسعة تشمل التعليم والشرطة المحلية والصحة والتخطيط والثقافة، إضافة إلى سلطة تشريعية كبيرة عبر برلمانات محلية منتخبة. في المقابل، يحتفظ المركز باختصاصات الأمن القومي والدفاع والسياسة الخارجية. رغم ذلك، ظل هذا النموذج محاطا بالتوترات السياسية، إذ تحوّل في بعض الحالات إلى منصة للمطالب الانفصالية. هذا البُعد يجعل التجربة الإسبانية نموذجا ناجحا من حيث التنظيم؛ لكنه محفوف بالمخاطر عندما يتعلق الأمر بوحدة الدولة.
أما النموذج الألماني، القائم على الفيدرالية، فيبدو أكثر صلابة واستقرارا. تتوزع ألمانيا على 16 ولاية تمتلك حكومات وبرلمانات محلية، وتدير جزءا كبيرا من الشؤون الداخلية بنجاعة ملحوظة. تكمن قوة هذا النموذج في وجود قواعد دستورية صارمة تنظم العلاقة بين الولايات والدولة الاتحادية، وتمنع الانزلاق نحو نزعات الانفصال؛ لكن هذا النموذج، رغم استقراره، ليس بالضرورة قابلا للتطبيق آليا على كل السياقات، لأنه يتطلب مستوى عاليا من التجانس السياسي والاجتماعي والبنية الاقتصادية، فضلا عن تاريخ طويل من الفيدرالية.
أما هونغ كونغ، فهي حالة خاصة تماما. تقوم على مبدأ “دولة واحدة بنظامين”؛ ما يمنح الإقليم استقلالا اقتصاديا وقانونيا كبيرا، وبيئة مالية تُعد من بين الأكثر تنافسية عالميا. تُعد هونغ كونغ مثالا ناجحا من حيث القوة الاقتصادية وحرية السوق ومكانتها المالية الدولية، وقد يشكّل ذلك مصدر إلهام لأية تجربة حكم ذاتي تبحث عن الإقلاع التنموي؛ غير أن هذا النموذج ظل دوما رهينا بمعادلة دقيقة بين بكين والإقليم، ومعرّضا لأزمات سياسية متكررة بسبب التوترات حول الحريات المحلية. ومن ثمّ، فإن نجاحه الاقتصادي لا يُخفي هشاشته السياسية.
وسط هذا المشهد الدولي، قدّم المغرب، سنة 2007، مقترح الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية كصيغة متقدمة وقابلة للتطوير، تُسند إلى السكان إدارة شؤونهم بأنفسهم داخل السيادة المغربية الكاملة. يقوم المقترح على تمكين سكان المنطقة من إدارة مجالات مثل الاقتصاد والثقافة والأمن المحلي والضرائب والتنمية، عبر مؤسسات منتخبة، مع احتفاظ الدولة بالاختصاصات السيادية المعهودة: الدفاع، العلاقات الخارجية، والعملات. وقد حظي هذا المقترح بدعم دول كبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا، وأصبح يُشار إليه اليوم من قبل مجلس الأمن باعتباره خيارا واقعيا وذا مصداقية.
الفارق الأساس بين التجارب العالمية والمقاربة المغربية يكمن في السياق. فإسبانيا وألمانيا وحالة هونغ كونغ ليست نماذج طُبقت في سياق نزاع سياسي مزمن، وإنما جاءت كجزء من هندسة الدولة نفسها. أما في المغرب، فالمقترح يأتي ضمن مسار طويل من جهود تسوية نزاع إقليمي تتداخل فيه اعتبارات الأمن والشرعية التاريخية والهويات المحلية والتوازنات الجيوسياسية. ومن هذا المنطلق، لا يمكن استنساخ أي من هذه التجارب كما هي؛ لكن يمكن استلهام عناصر منها.
من حيث الحكامة، تبدو التجربة الألمانية أكثر ملاءمة للمغرب من الناحية النظرية، بسبب وضوح العلاقة بين المركز والجهة، واستقرار النظام السياسي الذي يمنع الانزلاق نحو الانفصال. إلا أن الاختلاف البنيوي بين طبيعة ألمانيا الفيدرالية وبين المغرب، الذي اعتمد منذ سنوات خيار الجهوية المتقدمة، يجعل الاستفادة منها جزئية فقط. أما التجربة الإسبانية، فتوفر نموذجا غنيا من حيث توسيع الاختصاصات المحلية؛ لكنها تحمل مخاطر سياسية كبيرة أثبتت التجربة أنها قد تتحول إلى مطالب انفصالية، وهو ما يجعلها غير ملائمة تماما لسياق الصحراء المغربية الذي يحتاج إلى نموذج يوازن بين توسيع الصلاحيات وضمان الوحدة الوطنية.
في المقابل، تقدم تجربة هونغ كونغ عنصرا مهما يصلح للاستلهام: الفعالية الاقتصادية؛ ذلك أن جعل الأقاليم الجنوبية نموذجا تنمويا ناجحا، قائما على اقتصاد تنافسي وجاذب للاستثمار الدولي، قد يكون عنصر قوة يعزز الاستقرار ويحول المنطقة إلى قطب اقتصادي في الساحل الأطلسي. وقد أظهر المغرب، عبر النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية لسنة 2015، قدرته على تحويل هذه الرؤية إلى برامج ملموسة؛ غير أن النموذج الهونغ كونغي يبقى غير قابل للنقل سياسيا، بسبب هشاشته وارتباطه الشديد بتاريخ خاص بين الصين وبريطانيا.
من هنا، تبرز خصوصية المقترح المغربي للحكم الذاتي الذي يمزج بين عناصر من هذه النماذج؛ لكنه يبقى متجذرا في السياق الوطني، ومتوافقا مع المعايير الدولية لتقرير المصير كما وردت في قرار مجلس الأمن 2797 الذي يعتبر الحكم الذاتي أحد أوجه ممارسته داخل إطار سيادي. ما يجعل النموذج المغربي أكثر نضجا هو أنه يراعي البعد الأمني، يضمن الاستقرار الإقليمي، ويحفظ وحدة الدولة، دون أن يحرم السكان من إدارة شؤونهم بأنفسهم عبر مؤسسات منتخبة تتمتع بصلاحيات واسعة.
إن المقارنة تُظهر بوضوح أن النموذج الأصلح للمغرب ليس نموذجا خارجيا جاهزا؛ بل هو النموذج المغربي نفسه، الذي يجمع بين عناصر القوة الاقتصادية المستلهمة من هونغ كونغ، وروح اللامركزية الألمانية، ودينامية الاختصاصات الواسعة بروح التجربة الإسبانية، ولكن دون أن يقع في فخ التوترات أو نزعات الانفصال. إنه نموذج يستند إلى الشرعية التاريخية للأقاليم الجنوبية، وإلى واقعية سياسية معترف بها دوليا، وإلى قدرة البلاد على ابتكار صيغة محلية للحكم الذاتي تصلح لأن تكون حلا دائما في منطقة حساسة من العالم.
في النهاية، يمكن القول إن الحسابات الجيوسياسية التي يفرزها قرار مجلس الأمن 2797 وموازين الدعم الدولي الصريح للمبادرة المغربية كلها تعزز من وجاهة النموذج المغربي، وتؤكد أن الحكم الذاتي ليس فقط حلا سياسيا؛ بل مشروعا تنمويا مستقبليا. في عالم تتسارع فيه التغيرات وتتسابق فيه الدول على بناء أقاليم قوية وفاعلة، يبدو أن المغرب قد اختار الطريق الصحيح: حكم ذاتي بملامح مغربية، مستلهم من التجارب الدولية؛ لكنه غير قابل للاستنساخ أو للمساومة على السيادة.
*دكتور في القانون العام جامعة شعيب الدكالي بالجديدة
المصدر: هسبريس
