“أولمبياد الفلسفة” في الثانويات .. تشجيع للمواهب يراهن على التفكير والتنوير
بشعارات تمتح من قيم الحرية والتنوير والتعدد والفكر النقدي، تنظم بمجموعة من المؤسسات الثانوية المغربية “أولمبياد الفلسفة” التي يُصَيَّر فيها التنافس بين التلاميذ تنافسَ حجاج وبرهان وبلاغة وخطابة، وهي منافسة بدأت منذ سنوات، وجرى تبنيها رسميا.
محمد الشبة، باحث في مجال ديداكتيك الفلسفة وكاتب سلسلتي “تحليل النص الفلسفي” و”الفلسفة والحياة”، قال إن أولمبياد الفلسفة يروم تحقيق غايات من بينها “تشجيع المواهب الفلسفية لدى المتعلمين”، باتخاذ شكل “مسابقة في الكتابة الإنشائية الفلسفية، وشكل مناظرة تعتمد على تقنيات وآليات التواصل الفلسفي الشفهي”.
وذكر الشبة في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية أن “الرهان التربوي والتنويري” يظلُّ “المقصد الأسمى لمبادرة الأولمبياد الفلسفي”؛ لكونه يتوجه “بالدرجة الأولى إلى المتعلمين باعتبارهم أطر الغد، فيسعى إلى تطوير قدراتهم العقلية وتوسيع مداركهم الفكرية، وتزويدهم بقيم التفكير الفلسفي، التي هي قيم الحق والخير والجمال”، وهو ما يسهم بدوره في “إعادة الاعتبار لمكانة الفلسفة في المنظومة التربوية، من أجل أن يتم الإقبال عليها والاستفادة من خيراتها الفكرية، ومن أجل أن تضطلع بدورها الأساسي في تنوير المجتمع، والمساهمة في تحقيق التنمية الشاملة للوطن وللإنسانية جمعاء”.
ثم أضاف المتحدث: “إذا كنا نعلم أن الفلاسفة في تاريخ أي أمة هم أشخاص قلائل، مقارنة مع الغالبية العظمى من الجمهور، فإنه يمكن القول (…) إن المتعلمين الذين يتمكنون من كتابة إنشاء فلسفي متميز هم أيضا قلائل مقارنة مع الغالبية العظمى من المتعلمين؛ وهذا يبين أن هؤلاء المتميزين في الكتابة الفلسفية يمتلكون موهبة أو ملكة فطرية تؤهلهم أكثر من غيرهم للتفوق في الكتابة الفلسفية، هذا إضافة إلى ما يقومون به من مجهود من أجل صقل هذه الموهبة عن طريق القراءة والكتابة”.
ولهذا فإن “الأولمبياد الفلسفي فرصة لهؤلاء المتفوقين من أجل أن يبرزوا قدراتهم ومهاراتهم في التفلسف، وينالوا بالتالي الدعم والتشجيع من طرف الجهات المنظمة لهذا الأولمبياد، عن طريق منحهم جوائز تشجيعية وشهادات تقديرية، خصوصا أننا نعلم أن مثل هؤلاء المتعلمين الموهوبين والمتفوقين فلسفيا هم مشاريع لكتاب ومفكري وفلاسفة المستقبل؛ إذ غالبا ما تظهر بوادر المفكر أو الفيلسوف في المرحلة التعليمية التي تسبق الباكلوريا، لكي تنمو وتزدهر بعد ذلك بشكل تدريجي مع توالي فعلي القراءة والكتابة”، وفق الباحث ذاته.
وتابع الشبة بأن “أولمبياد الفلسفة” فرصة أيضا لـ”تطوير الكفايات المنهجية والتواصلية لدى المتعلمين”؛ نظرا لما يتخلل المسابقة من “ورشات يعمل من خلالها المدرسون والمؤطرون التربويون على تدريب التلاميذ على الكتابة الإنشائية الفلسفية، ما يساهم في تزويدهم بمجموعة من الآليات والمهارات والقدرات المنهجية التي تتطلبها الكتابة الفلسفية وترسيخها لديهم”، إضافة إلى “تدريبهم على اكتساب تقنيات التعبير العقلي والتواصل الفلسفي، لكي يصبحوا قادرين على الدفاع عن أفكارهم وآرائهم بحجج وبراهين مقنعة ومناسبة”.
ومن أدوار هذه “الأولمبياد” أيضا “تشجيع المتعلمين على القراءة وتوسيع مداركهم العقلية”؛ فالمتعلم، وفق محمد الشبة، “حينما يكون مقبلا على خوض غمار التباري في الأولمبياد الفلسفي، الذي قد يتخذ صيغة كتابية أو شفهية، يكون ملزما بأن يتزود بمجموعة من المعارف الفلسفية التي تؤهله للتفوق في هذه المسابقة؛ وهذا لن يتأتى له إلا عن طريق الاطلاع المعمق على محتويات المقررات الدراسية، وقراءة بعض الكتب والمصادر والنصوص المساعدة، ما يساهم في إثراء الرصيد المعرفي والثقافي لدى هؤلاء المتعلمين المتبارين”.
كما أن من الأدوار التي تؤديها مثل هذه المسابقات “ترسيخ قيم الحوار والإنصات والتسامح والقبول بالاختلاف؛ لأن الأولمبياد الفلسفي هو فرصة لترسيخ قواعد الحوار الفلسفي والمناظرة الفكرية لدى المتبارين، وتزويدهم بقيم الإنصات إلى الآخر والاعتراف له بحقه في الاختلاف، والإعلاء من قيمة الحجة العقلية والبرهان الفلسفي في الدفاع عن الآراء والمواقف”، وهو ما يسهم في “إشاعة التفكير النقدي والحجاجي في الوسط المدرسي والمجتمعي”، فضلا عن “تثمين حرية التعبير والاعتزاز بالذات”، نظرا لتشكيل هذا الموعد “أغورا” تتيح للمتعلم “إبراز مواهبه وقدراته، والتعبير بشكل حر عن أفكاره، ما يسمح له بالإحساس الإيجابي بذاته، والاعتزاز بما يملكه من مهارات وقدرات في الكتابة والتعبير الفلسفيين”، وفق المصدر ذاته.
وبما أن أولمبياد الفلسفة “لا يُملى من فوق”، بل يصدر عن “جهات ومبادرات محبة للفلسفة، وتحركها الرغبة في إشاعة روح التفلسف، والارتقاء بطرائق الدرس الفلسفي، وتحقيق الكفايات المنهجية والمعرفية والقيمية المتوخاة منه”، فإنه أداة لـ”تحفيز مدرسي الفلسفة الباحثين، والمبادرين لتنشيط الحياة الثقافية المدرسية، من أجل مواصلة مجهوداتهم في تحقيق أهدافهم الثقافية والتربوية النبيلة داخل الأوساط المدرسية”. كما ينتج عن مثل هذه المسابقات المدرسية، وفق المصرح، “توسيع دائرة الاهتمام بالفلسفة”.
ثم استرسل الشبة شارحا: “إذا كانت الفلسفة غالبا ما يتم التوجس منها ونعتها بأوصاف سلبية من طرف غير المهتمين بها فإن من شأن تنظيم الأولمبياد الفلسفي أن يعيد لها الاعتبار اللائق بها، ويحفز شريحة واسعة من المتعلمين على الإقبال عليها، والوقوف عن قرب على أهميتها وفائدتها بالنسبة للفرد والمجتمع على حد سواء”.
وبأولمبياد الفلسفة، وأولمبياد مواد أخرى، تُعزَّز، حَسَبَ الباحث، “مكانة منظومة التربية والتكوين”؛ لأن تنظيم مسابقات الأولمبياد الفلسفي، وباقي الأولمبياد المتعلقة بالمواد الدراسية الأخرى، وما يتم رصده لها من إمكانات مادية وموارد بشرية وجوائز تحفيزية، “من شأنه أن يعزز مكانة المنظومة التربوية على الصعيد الوطني، ويبرز الأدوار الطلائعية التي تقوم بها في إعداد الأطر والمواهب التي من شأنها أن تشكل قاطرة لقيادة التنمية الثقافية نحو ارتياد آفاق أرحب أوسع”.
المصدر: هسبريس