أوراق من برلين .. الفن وصفة طبية تمتلك مفاتيح أبواب الروح الإنسانية

في فضاءات الفن والإبداع والجماليات يعثر القلب على دوائه والعقل على غذائه. الفن شفاء كما تقول صحيفة “التاتس” الألمانية في مقال غني وعميق عن علاقة الفن بالطب. يقدم الأطباء قريبًا وصفات للمرضى بغية الاستفادة من الأنشطة الثقافية والفنية. لكن السؤال الذي تطرحه الصحيفة الألمانية: لماذا سوف يتمكن الإنسان من الاستفادة من الفن عندما يصاب بالمرض؟
في قلب العاصمة برلين، حيث تتشابك الأزقة وتتلاحم الثقافات، ينتظر الجميع فكرة جديدة قد تكون نقطة التحول. فكرة قد تكون غريبة، لكنها محملة بالرغبات والأحلام. الحلم والرغبة يواكبان وجود الإنسان. أليس كذلك؟
تضيف الصحيفة الألمانية أنه في الأفق تُخطط المدن لابتكار طريقة غير تقليدية لعلاج التوتر والألم النفسي، فتأتي “الوصفة الاجتماعية” التي يقدمها الأطباء، وهي رسالة وتوجيه للمريض نحو العلاج عبر اللمسات الفنية. ما هو السر في هذه الوصفة؟ إنها لا تحمل فقط الأدوية التقليدية، بل تقدم أيضًا رحلة عبر المتاحف، من خلال الفن، الذي يفتح أبواب الروح ويعيد ترتيب أفكارها..
طُرق الشفاء لا تُحصى
إن العزلة، هذا العدو الخفي الذي يسرق منا بهجة الحياة، لم تعد مجرد ظاهرة اجتماعية، بل أضحت تشكل تهديدًا جسيمًا على صحتنا. العزلة تتسلل إلى الدماغ فتغير ملامحه، تمامًا كما يفعل الزمن في لوحة تشكيلية قديمة، فتزداد أضرارها كلما طال الأمد، وتصبح وحدة الإنسان وعزلته حجرًا ثقيلًا على قلبه، ومفتاحًا مفتوحًا لاضطرابات نفسية مثل الاكتئاب والقلق، غير أن علاج هذه الأوجاع قد لا يكون في أدوية تُبتلع يوميا، بل قد يكمن في زيارة متحف حيث تتجلى الألوان واللوحات كأدوية نفسية تتسلل إلى أعماق الروح.
لقد أظهرت الدراسات أن التعامل مع الفن لا يقتصر على تحسين المزاج فحسب، بل يمتد ليحسن الصحة العقلية والجسدية. زيارة المعارض الفنية تُحسن الاكتئاب وتقلل من القلق، وحتى قد تبطئ التدهور العقلي في أمراض مثل الزهايمر. أكثر ما يميز هذا العلاج هو عندما يتم داخل مجموعة، حيث يُتاح للمريض التعبير عن مشاعره وتجسيد أفكاره عبر الفن، مما يخلق نوعًا من التعافي التشاركي. الفن لا يختزل في الفن التشكيلي، بل هو مجال تلتقي فيه الفنون البصرية كلها مثل المسرح والسينما. المسرح والسينما فضاءان للتعبير عن الذات وتحرر الجسد والروح من الشوائب الاجتماعية والتاريخية.
وتدرس منظمة الصحة العالمية آثار الفن على الإنسان منذ عام 2019. الفن يمكن أن يساعد الناس على التعامل مع المشاعر الصعبة، والشعور بالتعاطف مع ما يشعر به الآخرون، وإيجاد تعبير عن معاناتهم الخاصة، ومعالجة الأمراض الخطيرة وتعزيز عملية العلاج.
الوصفة الاجتماعية.. هدية المجتمع للمريض
في عالمنا اليوم ليس الفن مجرد وسيلة للترفيه تُضاف إلى حياة البشر، بل هو ضرورة للصحة النفسية. في هذا السياق أصبحت “الوصفة الاجتماعية” هي المفتاح الذي يمكن أن يفتح أبواب العلاج لآلاف المرضى الذين يعانون من الوحدة أو الاكتئاب. في برلين، حيث تلتقي الحضارات وتتناقض التحديات، بدأت مبادرة جديدة: وصف الأطباء لمرضاهم زيارة المتاحف والمشاركة في الأنشطة الثقافية كجزء من علاجهم النفسي.
هذه الوصفة ليست محصورة في زيارة متحف فقط، بل تشمل مجموعة متنوعة من الأنشطة الثقافية مثل الرقص، الطهو، الفخار، وحتى الحياكة. الهدف هو تحفيز الأفراد على التفاعل مع أنفسهم ومع الآخرين، بعيدًا عن جدران العزلة. هذا النظام الجديد يركز بشكل خاص على الأشخاص الذين يعانون من العزلة مثل كبار السن الذين يعيشون بمفردهم، أو الأشخاص الذين ينتمون إلى مجتمعات المهاجرين واللاجئين. العزلة القاتلة لا تمس العمر الثالث في المجتمع الألماني، بل تمس، حسب الدراسات العلمية، الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 سنة.
الثقافة حق للجميع..
ولكن، كما هو الحال دائمًا، يبقى التحدي الأكبر هو الوصول إلى هذه الامتيازات الفنية. إن الطريق إلى الفن ليس سهلاً أمام الجميع. ففي المدن الكبرى، حيث تتعدد المتاحف والمسارح، يستطيع الجميع الاستمتاع بتجارب ثقافية مدهشة. لكن في القرى البعيدة قد تصبح زيارة المتحف حلمًا بعيد المنال. والفقر، ذلك العدو الصامت، يزيد من صعوبة الوصول إلى هذه الأماكن. فكيف يمكن للفرد الذي يعاني من ضغوط الحياة اليومية أن يجد الوقت أو المال لمشاركة هذه الأنشطة؟
لكن حتى لو تمت تغطية التكاليف بواسطة هذه الوصفة الاجتماعية، يبقى الأمر أكبر من ذلك. الثقافة ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل هي جسور تلتقي فيها الأرواح وتتعافى من خلال الإبداع الجماعي. لذا يجب أن يكون الوصول إلى هذه الأنشطة أكثر من مجرد استجابة لمرض، بل جزءًا من الحياة اليومية، سعيًا لتحقيق التوازن العقلي والروحي.
الفن استثمار في الصحة..
إذا ما قورن بتكاليف العلاج التقليدي فإن الاستثمار في مجالات الفن والثقافة يعتبر متواضعا جدًا. إذ كيف يمكننا أن نرى الفن كرفاهية، في حين يحمل في طياته قدرًا من العلاج لا يمكن الاستهانة به. إن الثقافة ليست شيئًا يمكننا التخلي عنه، بل هي جزء أساسي من حياة الإنسان، تؤثر بشكل عميق على صحته النفسية والجسدية.
إن الوصول إلى الفن ليس مجرد ترف، بل هو ضرورة للحفاظ على التوازن العقلي والنفسي. وإذا ما أُتيح للجميع أن يعيشوا تجارب ثقافية بشكل مستمر، ربما لا نحتاج إلى وصفات طبية لعلاج الاكتئاب أو العزلة. قضية جوهرية تحتاج إلى المزيد من التفكير.
*كاتب ومخرج مقيم في برلين
المصدر: هسبريس