في خطوة كانت متوقعة في ظل السياق السياسي الراهن، أيدت محكمة الاستئناف بالعاصمة الجزائرية الحكم الابتدائي بسجن الكاتب الجزائري الفرنسي بوعلام صنصال لخمس سنوات. ويأتي هذا القرار ليطرح مجددا وبحدة، أسئلة مقلقة حول وضع الحريات واستقلالية القضاء في بلد يحكمه نظام عسكري له سجل حافل في قمع الأصوات المعارضة. لكن السؤال الأكبر الذي يفرض نفسه بإلحاح هو: أين هي المنظمات الدولية التي نصبت نفسها حامية لحرية التعبير في العالم؟.
إن قضية بوعلام صنصال، الذي تجاوز الثمانين من عمره، وحوكم بتهم فضفاضة من قبيل “المساس بوحدة الوطن” و”إهانة هيئة نظامية” بسبب تصريحات أدلى بها لوسيلة إعلام فرنسية، لم تكن مجرد قضية رأي عابرة. لقد تحولت إلى رمز لأزمة أعمق تتعلق بازدواجية المعايير التي تتعامل بها جهات دولية مع قضايا حقوق الإنسان. فبينما تستنفر البيانات وتعقد الندوات لقضايا مشابهة في دول أخرى، خيم صمت مريب ومقلق على مواقف العديد من المنظمات الحقوقية الكبرى تجاه قضية صنصال.
وهذا الصمت لا يمكن تفسيره إلا في إطار الانتقائية السياسية والمصالح التي باتت تحكم مواقف هذه الهيئات. لقد اختارت هذه المنظمات أن تغض الطرف عن قضية كاتب مرموق، لم يرتكب جريمة سوى التعبير عن قراءة تاريخية، قد نختلف معها جذريا، لكننا حتما لا يمكن أن نختلف حول حقه في الاختلاف والتعبير عن رأيه دون خوف من الملاحقة والسجن. فالمفكر، الذي عرف بكتاباته النقدية، لم يدع الى عنف او يحرض على كراهية، بل مارس حقه في التفكير والتحليل، وهو حق تكفله المواثيق الدولية التي يفترض أن هذه المنظمات تدافع عنها.
إن الجهة المتهمة في هذه القضية ليست مجرد محكمة أصدرت حكما، بل هو نظام سياسي كامل له تاريخ طويل في اضطهاد الصحافة وكتاب الرأي والمدونين والحقوقيين. فمنذ انحسار الحراك الشعبي، دخلت الجزائر مرحلة أشد قمعا للحريات، حيث تم تفكيك التنظيمات المستقلة وسجن النشطاء وتوسيع دائرة الاتهامات لتشمل كل صوت نقدي. وهي الانتهاكات التي وثقتها بعض المنظمات الحقوقية التي فضلت الصمت اليوم عن هذه المجزرة الحقوقية في بلد أصبح سجنا كبيرا لكل ذي رأي لا يرى ما يراه حكام العسكر.
إن تجاهل المنظمات الدولية لهذا الواقع الصارخ يطرح علامات استفهام جدية حول مصداقيتها واستقلاليتها. فصمتها هذا لا يخدم سوى للنظام القمعي في الجزائر ويمنحه ضوءا أخضر للاستمرار في انتهاكاته. وكشفت قضية صنصال أن الدفاع عن حرية التعبير لدى البعض يخضع لحسابات سياسية وجغرافية، حيث ينتصر للحقوق في دول ويتغاضى عنها في أخرى حسب خريطة النفوذ والمصالح الدولية.
لقد تحولت قضية صنصال إلى أزمة دبلوماسية بين الجزائر وفرنسا، التي عبرت عن أسفها للحكم ودعت إلى حل انساني، وهو ما يعكس حجم التسييس الذي شاب الملف منذ البداية. لكن بعيدا عن التجاذبات السياسية، تبقى الحقيقة الجوهرية أن كاتبا ومفكرا يقبع في السجن بسبب آرائه، في جريمة فكرية واضحة المعالم.
إن هذا الصمت ليس موقفا محايدا، بل هو بمثابة إعلان يشجع النظام العسكري في الجزائر على التمادي في ممارساته. وهو يقوض مصداقية العمل الحقوقي برمته، ويفرغه من محتواه الأخلاقي. إن قضية بوعلام صنصال، بهذا المعنى، لم تعد مجرد قضية كاتب مسجون، بل أصبحت اختبارا حقيقيا للمنظومة الحقوقية الدولية. فبسكوتها، لا تخذل هذه المنظمات صنصال كفرد، بل تخذل المبادئ التي تأسست من أجلها. فحين يسجن كاتب لآرائه، ويصمت العالم، لا تكون الحرية هي الخاسر الوحيد، بل العدالة والمصداقية معا.
وختاما لابد من التذكير، إن كان الأمر يحتاج أصلا للتذكير، أن هذه المنظمات إذا أرادت أن تحافظ على ما تبقى من ثقتها، فعليها أن تدرك أن ازدواجية المعايير هي أقصر طريق لفقدان أي تأثير أخلاقي أو قانوني.
المصدر: العمق المغربي