أكاديميون وباحثون بتطوان يناقشون قضايا وإشكالات الفلسفة والتصوف بالأندلس
نظمت شعبة الفلسفة والفكر الإسلامي والحضارة بكلية أصول الدين بتطوان، بتنسيق مع فريق البحث “الفكر الكلامي والفلسفي بالمغرب والأندلس” وفريق البحث “فلسفة وتكامل العلوم في الحضارة الإسلامية، تاريخ واستشراف”، يوما دراسيا في موضوع “الفلسفة والتصوف بالأندلس: قضايا وإشكالات”، يوم الخميس 2 يناير 2025، وهو النشاط الذي نسقه كل من ذ. الزبير درغازي، وذ.مصطفى السعيدي، وذ.عبد الغني يحياوي، وذ. أحمد الفراك.
فبعد جلسة افتتاحية، ألقيت فيها كلمات ترحيبية بالمشاركين والحضور، من طرف الهيئات المنظمة، انطلقت أشغال الجلسة العلمية الأولى في موضوع: التصوف بالأندلس قضايا وإشكالات، سيَّر فعالياتها الدكتور الزبير درغازي.
كان المتدخل الأول في هذه الجلسة هو الدكتور ميمون موسوي رئيس شعبة الفلسفة بكلية الآداب بمرتيل، في موضوع بعنوان: “بين المسعى الفلسفي والمسعى الصوفي إشكالات والتباسات”، وتتمحور مداخلته حول موضوع الفلسفة والتصوف، وفق مقاربة جدلية، تتوزع مداراتها بين المسعى الفلسفي والمسعى الصوفي، على أرضية التمييز بين تصوف الفلسفة الإسلامية، وتصوف المتصوفة في الإسلام؛ وأساس هذا التمييز نابع من طبيعة التجربة الصوفية، بما هي تجربة روحية، قائمة على أساس الرؤيا وخرق العادة. في مقابل الفلسفة الإسلامية ذات النزعة الصوفية، سيما ما تعلق منها بمبحث الإلهيات ومسألة السعادة. إذ ارتبط التصوف بالفلاسفة المسلمين، سواء في المشرق أو في المغرب الإسلاميين، نذكر على سبيل المثال الفارابي (ت 950م) في مبحث الإلهيات، وابن سينا (ت 1037م) في كتابه “الحكمة المشرقية”، وابن باجه (ت 1138م) في كتابه “تدبير المتوحد”، وابن طفيل في رسالته اليتيمة “حي بن يقظان”. وفق هذا المسعى يمكن الحديث عن الالتقاء العرضي بين الفلسفة و التصوف.
بعده مباشرة تناول الدكتور مصطفى السعيدي الكلمة ليتحدث في “منزلة المعرفة الصوفية لدى لسان الدين ابن الخطيب”، مركزا على عينة من المفاهيم التي تحيل على حقل المعرفة الصوفية، من قبيل: الحكمة، والحقيقة، والفراسة، والبصيرة، والمكاشفة، والمشاهدة، والمعاينة، وغيرها من المفاهيم التي يمكن الاسترشاد بها لتقريب منزلة المعرفة الصوفية لدى ابن الخطيب. كما أكد على ضرورة استحضار التمييز التفاضلي الذي يقيمه الرجل بين مراتب كل من أهل الظاهر، والصوفية، والعارفين، وكذا إمعانه في استبعاد أهل الوحدة المطلقة، وجعلهم خارج دائرة التصنيف.
أما ثالث المتدخلين في الجلسة الأولى، هو الدكتور محمد بلال أشمل في موضوع “التاريخ الروحي المقارن بين النصرانية والإسلام. بصدد أنظار “بالاسيوس” حول أصول الطريقة الشاذلية وممثليها الأساسيين”، مؤكدا على أن ميغيل آسين بالاسيوس (18711944م) علم بارز في معمار الإسلاميات الإسبانية؛ فهو الدال عليها، والدليل إليها، لما خلفه من أعمال منشورة في حياته أو بعد مماته، في أرفع القضايا الفكرية والفلسفية والدينية والتاريخية، ومنها التاريخ الروحي للإسلام، وبصورة خاصة التاريخ الروحي المقارن بين النصرانية والإسلام، ومنه انشغاله بالشاذلية فكرا وتوجها ورجالا.
والغرض من هذا البحث الوقوف عند أنظاره حول الشاذلية، وفحص أحكامه حول مذهبها الصوفي، ومراجعة أفكاره حول صلتها بتيار المنورين، ضمن نقد عام لمنهجه المقارن في البحث، وعلى هدي نقد خاص لمسلماته في مقارنة البعد الروحي بين النصرانية والإسلام. ولعل الإشكالية العامة التي نحب تطارحها هاهنا هي الحد الذي تصدق فيه هذه المقارنة بين البعد الروحي في كلتا الديانتين حين تصير المقارنة مفاضلة، ومن ثم تنحرف عن غاياتها العلمية في الوصف والتحليل دون الحكم والتقييم.
منطلقنا في كل ذلك عموم أعماله المنشورة، التي تطارحت مسألة المقارنة بين التجربتين النصرانية والإسلام على المستوى الروحي والعقدي، وخصوص ما نشره في سلسلة مطولة عن الشاذلية والمنورين” في مجلة “الأندلس”.
أما الدكتورة بشرى عسال فقد اختارت موضوع “التصوف الفلسفي: المنهج والنظريات”، للتأكيد على أن التصوف الفلسفي استمد جذوره من الفلسفة وخصوصا نظرية أفلاطون وأرسطو كما تأثر هذا بمختلف الحركات الفكرية إن من داخل العالم الإسلامي أو خارجه مما أدى إلى بروز مجموعة من النظريات الثيوصوفية منها وحدة الأديان وتواتر النبوة وإسقاط التكاليف. كما أن تعدد النظريات الثيوصوفية راجع إلى المنهج الذي اتخذه التصوف الفلسفي والقائم على التأويل الرمزي الإشاري الذي نافح عن كون العبارات والكلمات تخفي معنى مخصوصا لا يلتقطه إلا المتصوفة في حالة وجدهم وهو ما مكنهم من أن يجدوا لنظرياتهم المختلفة سندا في كتاب الله.
بعد ذلك، ألقى الدكتور محمد صلاح بوشتلة (أستاذ الفلسفة بكلية الآداب بمراكش) كلمة (عن بعد) في موضوع “ابن طفيل بين حب المتصوفة وكره الفلاسفة”، معتبرا أنه على خلاف ما هو معروف، أن ابن طفيل كان شخصية صوفية خادمة لمشروع التصوف أكثر مما هو فيلسوف خادم للمشروع الفلسفي، وأن قِصّته حيّ بن يقظان كانت تتويجاً لتجربة ابن طُفيل مع أهل الطّريقة والمشاهدة، لذا فقد تضمنت تقريبا لنموذج أحد رموز التصوف المغربي وهو أبو يعزى شبيه حي بن يقظان، كما تضمنت دفاعا متحمسا عن صوفية الحلول والاتحاد ودفاعا آخر عن تجربة أبي حامد الغَزّالي الصوفية، وأن دفاعه عن الأخير جاء في سياق الرد على هجمة ابن رشد على الغزالي.
وفي المقابل حاول الباحث بيان هجمات ابن طفيل على بعض المرجعيات الفلسفية ومحاولته التقليل والتخسيس منها. ليؤكد الباحث محمد صلاح بوشتلة على أن ابن طفيل حاول البحث عن طريق أخرى خارج الحدود التي سطّرتها مشائية عصره، ومن هنا كان تعريضه بالفَارَابي وابن باجّه وتقليله من شأن ما وصل الأندلس من كتب أرِسطُو، ليكون ابن طفيل أقل ارتباطاً بتلك المرجعيات الفلسفية التّقليدية، بما في ذلك أرسطو الذي لم يمثل عند ابن طفيل أي سلطة فلسفية يمكن التعويل عليها في طريق الاتصال. كما حاول الباحث بيان بعض جوانب خصام ابن طفيل مع زعيم التيار المشائي في عصره وهو أبو الوليد بن رشد.
وآخر مشاركة في الجلسة الأولى كانت للدكتور محمد روي في موضوع “المصادر المشرقية للتصوف بالأندلس”، بين فيها أن التصوف الأندلسي ارتبط من بداياته بالتصوف المشرقي مثلما كان لغيره من العلوم ارتباط بالمشرق، لعدة أسباب يبقى أهمها: أن المشرق منبع الدين ومنطلق الفكر الإسلامي على العموم، واتباعا كان كل جديد مميز في الفكر ينقل إلى الأندلس، ومن أجل هذا يجوز القول أن التصوف الأندلسي مبني في نشأته على المصادر المشرقية.
وقد تم التناول في هذه الورقة أثر عدة مصادر مكتوبة، منها: أولا: الرعاية للحارث بن أسد المحاسبي البصري (ت.243هـ)، ثانيا: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت.430هـ)، ثالثا: رسالة القشيري عبد الكريم (465)، رابعا: إحياء علوم الدين للغزالي(ت.505هـ)، خامسا: المصادر الفلسفية المترجمة إلى اللغة العربية. كما قُسمت هذه المداخلة إلى محورين: المحور الأول: دخول المصادر المشرقية إلى الأندلس. والمحور الثاني: تحديد المصادر المشرقية الأساسية للتصوف الأندلسي.
أما الجلسة العلمية الثانية، فقد كانت بعنوان “الفلسفة وعلم الكلام بالأندلس: قضايا وإشكالات”، وقد سير أشغالها الدكتور عبد الغني يحياوي.
وتناوب على الكلمة كل من الدكتور أحمد الفراك والدكتور أحمد بوعود والدكتور أحمد مونة والدكتور الحسان شهيد، حيث اختار الأستاذ الفراك “منزلة الغزالي عند ابن رشد من خلال فصل المقال” موضوعا لورقته، وحاول أن يتتبع مواضع حضور الغزالي في فتوى ابن رشد، وردود صاحب فصل المقال على الغزالي، من أجل الإسهام في تفسير أسباب مطاردة ابن رشد لشبح الغزالي. منطلقا من فرضية مفادها أن ابن رشد كان غزاليا متحررا، وأن أطروحته ليست على نقيض أطروحة الغزالي، وإنما هي استئناف لها. وفي ذلك قسم موضوعه إلى أربع عنوانات:
أولا: مقدمات، وتحدث فيها عن طبيعة الكتاب بوصفه فتوى فقهية وليس تأليفا فلسفيا، وموضوعه هو “وجوب النظر العقلي وحدود التأويل”، وعن هوية الكاتب: وهو فقيه ابن فقيه ابن فقيه ، وعن هاجس الغزالي الحاضر بقوة في الكتاب من أوله إلى آخره، وعن استئناف ابن رشد للقول الباجي، ومن ورائه القول السينوي والغزالي.
وثانيا: عن ثناء ابن رشد عن الغزالي واعترافه بعلو مكانته بين أهل النظر وأهل البرهان وأهل التأويل، وعن شروط النظر الشرعي.
وثالثا: عن مواضع يستدل فيها ابن رشد بأبي حامد أو يوافقه، وهي وجوب تعلم المنطق، وجواز مخالفة الإجماع، وتكفير الواقع في مبادئ الشريعة، وللشرع ظاهر وباطن، وأنواع الحكم على المخالف وتكفير الفلاسفة، والقول في العلم الحق والعمل الحق، والقول في كون العلم تصور وتصديق، ومنهج النظر في كتب الأقدمين، وفي وثوق قول العارف.
ورابعا وأخيرا: في مواضع ينتقد فيها ابن رشد الغزالي، مثل قاموس التكفير والتبديع، وتكفير الفارابي وابن سينا، وتكفير المشائين، واتهام الغزالي بالجهل، ونقد القول بقِدم العالم، وتكفير المتؤول من غير أهل البرهان، وإفشاء نتائج التأويل لغير أهل البرهان، والتشكيك في قصد الغزالي من إفشاء التأويل للجمهور، وتحريض السلطة على منع كتبه، وأخيرا في قصور البرهان، وإثبات عدم يقينيته.
وبعده تدخل الدكتور أحمد بوعود يلتحدث في “العقل والإيمان في فلسفة ابن مسرة الجبلي”، حيث نسب إلى أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن مسرة بن نجيح القرطبي الجبلي (ولد بقرطبة بإسبانيا، في عام 269 هـ/883 م، وتوفي في عام 319 هـ/931 م) مسؤولية تأسيس الفلسفة الإسلامية الأندلسية، كما نسب إليه نشأة أوّل حركة صوفيّة مشهورة بالأندلس في القرن الثالث للهجرة. إذ كان هدف فلسفته هو إظهار الاتفاق بين العقل والوحي. مبينا أن المسارين اللذين سلكهما الفلاسفة والأنبياء يؤديان إلى نفس الهدف المتمثل في الوصول إلى معرفة وحدانية الله.
ففي كتابه الاعتبار، يجيب ابن مسرة أحد تلامذته الذي استفسره عما قرأه في بعض الكتب: أنه لا يجد المستدل بالاعتبار من أسفل العالم إلى أعلى إلا مثل مادامت عليه الأشياء من الأعلى إلى الأسفل، وتطلعت إلى تحقيق ذلك وتمثيله…
يجيب ابن مسرة مثبتا علاقة العقل والإيمان، مبينا أن النقل يبدأ من الأعلى إلى الأسفل في معرفة الحقيقة الدينية، أو الحقيقة الإيمانية، بينما العقل يبدأ من العالم الأدنى إلى الأعلى أو الموجود المطلق.
إن العقل والإيمان عند ابن مسرة متلازمان؛ فالعقل المستبصر أو المعتبر هو العقل المؤيد بالإيمان والوحي. أما العقل المجرد فهو لا يدل على إيمان. وهذا العقل المؤيد هو الذي يتوافق مع ما جاء به الأنبياء، ويشهد لما جاؤوا به، فهو لا ينشئ إيمانا من ذاته.
إن نص ابن مسرة هذا طافح بالآيات القرآنية، تلك الآيات التي تهتم بشؤون العقيدة أولا والداعية إلى التدبر والاعتبار.فضلا عن ذلك، فإن هناك معان قرآنية يسهل على القارئ معرفتها، وهذا يدل على أن الرجل كان متشبعا بروح القرآن الكريم. لقد أعطى ابن مسرة للآيات القرآنية تلك أبعادا تأويلية تحتاج إلى مزيد بحث ودراسة.
أما الدكتور أحمد مونة، فحاضر في “آفات دليل الممانعة في فلسفة ابن رشد” حيث تناول في عرضه مفهوم الدليل الكلامي وخصائصه المنطقية لينتقل بعد ذلك إلى بيان المنحى الذي سلكه ابن رشد في معايرة دليل الامتناع الكلامي المشهور على النحو الذي صاغه محققو الأشعرية في الحجاج عن وحدانيه الله تعالى، معرجا من جهة على اجتهاد الغزالي في تفقيه المنطق بوصفه مدخلا لتقريب وفهم دليل الامتناع، ومن جهة أخرى على جملة الاعتراضات التي سلكها ابن رشد في تقويم هذا الدليل وبيان الآفات المنطقية التي تلزم عن إعماله في النظر الكلامي بشكل عام.
ومن جهته تحدث الدكتور الحسان شهيد في “سؤال المنطق في الخطاب الأصولي بالأندلس، أنظار وأفكار”، مركزا على جملة من ستة أسئلة وإشكالات: الأول: سؤال أزمان اشتباك المنطق بالخطاب الأصولي؟ الثاني: سؤال الحاجة إلى الدرس المنطقي وانعكاسها على الفكر الأصولي الأندلسي؟ الثالث: سؤال أولية الدعوة الى استثمار المنطق في الأصول عن ابن حزم أم الغزالي؟ الرابع: سؤال دعوة الغزالي المنطقية هل أراد بها إقحام المنطق في الأصول أم تصفيته؟ الخامس: سؤال المفارقة بين الغزالي والشاطبي في الدعوى والاستثمار؟ السادس: سؤال الاختلاف البنيوي بين العلمين خصوصا في بابي الدلالة والاستدلال.
وبعد إنهاء المداخلات فتح المجال للمناقشة بين الحضور والمشاركين، مما أترى موضوعات اليوم الدراسي بالأسئلة والتعقيبات والمراجعات والإضافات، وفتح آفاقا واسعة للطلبة والباحثين، من داخل الكلية ومن خارجها. وكما افتتح النشاط اختتم بآيات بينات من الذكر الحكيم.
المصدر: العمق المغربي