بين العشرين من أكتوبر والسادس من نونبر، سرت الكثير من المياه تحت جسر الكرة المغربية، تحوّل الفرح إلى قرح، واستحال الفخر إلى مهانة. مثلما يحرص الكثير من المغاربة على تسجيل ذلك الفجر من يوم الإثنين 20 أكتوبر، تاريخ التتويج بكأس العالم للشباب بالتشيلي، في ذاكرتهم الجماعية، هم مدعوون أيضا إلى تدوين أمس الخميس في الأرشيف الرياضي الوطني، بعد الدّرس القاسي والمؤلم الذي لُقِّن لمنتخب “الفتيان” وكل المتداخلين، ونحن نتجرّع هزيمة مُذلّة قوامها سداسية نظيفة أمام البرتغال في المونديال.
كيف للمشجع المغربي أن يستوعب ما حدث في هذا اليوم الاستثنائي، وقد عاش قبل أسبوعيْن نشوة الجلوس على عرش الكرة العالمية. هو في الواقع شعور طبيعي وقابل لجعل المغاربة فريسة لمشاعر متناقضة بين الماضي القريب المجيد والحاضر المؤلم، لكن ما يسعنا قوله عن الناخب نبيل باها، وهو يُعلن التحاقه بنا جميعا، مُلتمسا أخذ مكان كمُتفرّج في مسرح الجريمة مثلنا، كأنه يكاد لا يذكر أسماء لاعبيه ولم يلتقيهم إلا لماماً وفي مناسبات نادرة.
ما قاله باها حول اعترافه بأنه عاجز عن التعرف على مجموعته التي مُنيت باندحار تاريخي يفتح جراحا أكبر من الهزيمة نفسها، إنه يدفعنا إلى الإيمان بأن ما تحقّق في اللعبة داخل هذا الوطن لا يتجاوز ما لم يُنجز، ويُزيح عن أعيننا غشاوة الحلم المونديالي للشباب الذي أصابنا بالثمالة وحفّزنا على المُغالاة والإفراط في تبنّي الأحكام القطعية والراديكالية، عندما كنا نجزم بأن الكرة المغربية قهرت منتخب الأرجنتين في النهائي وبالتالي فهي ملكة العالم، ونتباهى بأننا ننعم بأفضل أكاديمية تكوين في كل أرجاء المعمور، تتخطى في حذاقتها وإنتاجيتها “لاماسيا” و”كلير فونتين”.
الهزيمة في كرة القدم من سُنن المعادلة الرياضية، بل السقوط في منعرجات الحياة برمتها هو قانون حتمي لا ينجو منه أحد، غير أن ما وقع في قطر لم يكن خسارة طارئة أو حادث مروري، بل هي نكبة تمسّ كرامة شعب يُكِنُّ حبا جمّا للمستديرة، وتربطه علاقة وجدانية وحتى وجودية بهذه اللعبة. أما الواقع الملموس في مقابلة البرتغال، فقد احتضن مشهدا بدا فيه المنتخب المغربي مثل مجموعة مُستحدثة على عجل تُماثل منتخبات جنينية كـ”سان مارينو” و”السيشل”.
الواقع أن المسؤولية الرياضية لهذه الانتكاسة ليس بوسع باها أن يتملّص منها، وقد كان مُحاطا بكل وسائل وأدوات الاشتغال المثالية، سواء من حيث الظروف أو الموارد البشرية أو الإمكانيات المادية، هذا وصمٌ ثابت على جبين الدولي المغربي السابق. ومن حيث المسؤولية التسييرية، فليس هناك أكثر ممن يُمكننا إلقاؤها عليه سوى الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم وهياكلها ومصالحها وأطرها ورئيسها.
قيل لنا منذ سنوات بأن جامعة الكرة تشتغل وفق منطقٍ بنيوي ومؤطر، حيث الاختصاصات مُوزّعة بوضوح على العاملين فيها، وحيث كل القرارات تُتّخذ استنادا إلى حسابات دقيقة واعتبارات تستحضر كل الجزئيات والتفاصيل. يحدث هذا ولم يدقّ أي إطار أو فرد ناقوس الخطر ويُطلق صفارة الإنذار حول منتخب الفتيان، لم يتوقّف أحد من المشتغلين داخل النسق عند أهلية زياد باها لحيازة الرسمية الدائمة على حساب لاعب قدّم غير ما مرّة أوراق اعتماده اسمه ناهيل حداني، ولا نبّه إطار إلى الزّلاّت التواصلية لباها مع الجماهير والإعلام، اللذيْن كانا سباقيْن إلى التنبيه في غمرة التتويج بكأس أفريقيا قبل بضعة أشهر.
استخلصنا درسا من هذه المشاركة المونديالية لكنه ليس كأي درس، بل هو قاسٍ وتُسدّد السمعة الكروية للمغرب ثمنه غاليا. ما شيّدناه على امتداد الخمس سنوات الأخيرة يُهدم بمعول منتخب باها في قطر، ويضع الإنجازات المُحقّقة مؤخرا محط شكوك، وهذا يستدعي خطابا صريحا من القائمين على اللعبة في البلد يتحدثون فيه عن المكتسبات كما الأخطاء، ويُعدّدون فيه المنجزات كما الخسائر والزّلاّت، إذا كنا نصبو فعلا إلى ترسيخ موقعنا ضمن كبرى المدارس العالمية.
نحتاج الآن إلى الأصوات التي كانت تتعالى مُهلّلة بإحراز كأس العالم للشباب بالتشيلي، كي تُمارس دورها النقدي وتضع اليد على مكامن القصور، فالجهاز الكروي المُشرف على الكرة الوطنية هو في أمس الحاجة إلى من يقول له الحقيقة كاملةً، يرصد له الأخطاء ويرسم له واقعاً بدون إضافات أو مساحيق تجميل، حتى نتقدّّم حقا بخطى ثابتة ومستندة إلى أسس صلبة نحو الصناعة الرياضية ذات القوة الناعمة التي نبحث عنها.
المصدر: العمق المغربي
