أحمد بوزفور ليس مجرد كاتب، بل نساج للأحلام وصانع حكايات، إنه كبيرهم الذي علمهم السحر. قاص يمشي على حافة الحلم والواقع.

ولد بوزفور في أوائل الأربعينيات، في حضن قبيلة البرانص بالقرب من مدينة تازة. تلقى تعليمه الأولي في الكتاتيب القرآنية، ثم حملته الأقدار إلى القرويين بفاس، حيث تشكلت ملامح فكره في أحد معاقل العلم والمعرفة. واصل طموحه العلمي، فنال شهادة استكمال الدروس في الأدب المغربي الحديث، وفي عام 1989 حصل على دبلوم الدراسات العليا عن رسالته حول شعر الشاعر العربي القديم سليل “العصر الجاهلي ” “تأبط شرا”، وهي الرسالة التي نشرها بوزفور في كتاب حمل اسما دالا (تأبط شعرا).

وكأستاذ جامعي بسط على الشعر الجاهلي عباءته، فكان يمزج بين الألمعية والحنكة والكفاءة، والقدرة العالية على إعادة قراءة التراث وتقريبه من طلبته في جامعة محمد الخامس بالرباط، ثم انتقل بعد ذلك إلى كلية الآداب عين الشق في الدار البيضاء حيث كان يقيم. وخلال هذه الفترة توالت إصداراته القصصية والنقدية، بدءا بمجموعته القصصية الأولى “النظر في الوجه العزيز”، و “الغابر الظاهر، و “ديوان السندباد”، و “إني رأيتكما معا”، “ونافذة على الداخل”، … وغيرها.

نشأ الكاتب القاص في بيئة طبيعية أثرت بشكل كبير في تطور رؤيته الفنية والأدبية. فالصخور الصامتة، والأشجار المتجذرة، والسماء الممتدة بلا حدود، كل ذلك شكل الخزينة البصرية والخلفية النفسية لإبداعه. وكانت الحكايات التي تتردد في ليالي الشتاء الباردة هي النوافذ التي فتحها على العالم. إذ استمع إلى روايات الجدات والحكايات الشعبية، لم تكن بالنسبة إليه مجرد قصص ترويها الألسن، بل كانت نبض الحياة نفسها، طاقة من الكلمات تتسرب إلى كيانه لتشكل نواة إبداعه الأدبي لاحقا.

لم يكن هذا الامتداد الطبيعي والحكواتي وحده من غذى خياله، فقد وجد في الأدب العالمي، بما فيه التراث العربي والنصوص المترجمة مصدرا لا ينضب للإلهام والاطلاع. وبصفته قارئا كبيرا فقد أعجب برموز أدبية مثل تشيكوف وبورخيس، وغيرهم من الأسماء الكبيرة التي ستشكل فيما بعد جزءا مهما من مرجعتيه الفكرية، وهو ما يضيف لأدبه حسا إنسانيا عالميا.

وفي لحظات الفراغ القليلة التي كان يسمح بها لنفسه، كان بوزفور يتأمل في صمت الكتب التي تحيط به كما تحيط الأسوار بمدينة عتيقة. لم تكن القراءة لديه فعلاً ترفيهياً، بل طقساً يومياً يوازي التنفس، ومجالاً مفتوحاً للتأمل في جدوى الكتابة وحدود اللغة. كانت المكتبة ملاذه، والكتاب صديقه الأول والأخير، لا فرق عنده بين نص كلاسيكي موروث أو ترجمة جديدة تفتح أفقا آخر للفكر.

ولعل من أسرار خلود نصوصه، تلك القدرة على التقاط التفاصيل الصغيرة، وتضخيمها. إذ يكفي أن يتنهد طفل أو تغمض امرأة عينيها حتى تبدأ الحكاية. لا يكتب من خارج الحياة، بل من عمقها، ورعشتها اليومية.

ينسج أحمد بوزفور قصصه كما ينسج العنكبوت شباكه، بدقة وحذر. أبطاله أشخاص عاديون يعيشون في قرى ومدن المغرب، يستمع إليهم، يلتقط همساتهم، ويحولها إلى نصوص تتحدث باسمهم، حيث الأدب مرآة للحياة بكل تناقضاتها وجمالها ومغامراتها، وما يتيحه من آفاق للتخيل واللعب والدهشة.

لقد ظل حريصًا على كتابة القصة كما لو أنه ينحتها من صخر، بتأنٍ مفرط. لا يبحث عن الكم، بل عن النص الذي يترك أثره في القارئ طويلاً. وربما لهذا السبب ظلت تجربته متفردة، ترفض الاستسهال، وتغرد خارج السرب في زمن يلهث فيه الكثيرون وراء البوز والظهور السريع.

والقارئ لبوزفور لا يخرج من نصوصه كما دخلها، فهناك دائماً أثر غامض يلازمه، القصة لا تنتهي فعلاً، بل تظل تشتغل في الخلفية، تطرح أسئلتها في صمت، وتعيد ترتيب العلاقة بين الكلمات والعالم. هذا النوع من الأدب لا يُقرأ فحسب، بل يُسكن.

والطريف، في أكثر من ملتقى أدبي يحضره أحمد بوزفور، هناك دائما سيدة تأتي لتحضر أنشطته وحواراته، تحوم حوله وتتحدث علنا عن تعلقها العميق به، وتتهمه أنه قد خرب حياتها بقصصه. ومع مرور الوقت، أطلق عليها الحضور مازحين لقب “مجنونة بوزفور”! ربما كان الكاتب القاص يجد في تلك المطاردة الأدبية، نوعا من الاعتراف الصامت بأن الأدب الحقيقي لا يقتصر على الإلهام فحسب، بل هو ما يحيط بنا جميعا بطرق لا نعرفها.

بملامحه الهادئة وكلماته العميقة، يعبُر أحمد بوزفور الجسر بين الحكاية الشفوية القديمة والأدب الحديث، متخففًا من كل ما يمكن أن يقيده، ولو كان في هيئة بيت أو نسب. لم يتزوج، ولم ينجب، لأن الحكاية وحدها كانت كافية لتملأ قلبه بالعناية، ظل يمشي على الهامش، حتى أصبحت عزلته أسلوباً ناعماً في الحضور.

أخلص بوزفور للقصة القصيرة، وفتح لها رفقة أصدقائه نوافذ ومختبرات وورشات للكتابة تدعم الشباب وتنشر أعمالهم في مشرع بلقصيري وبركان وزاكورة، وتجربة مجموعة البحث في القصة القصيرة في كلية آداب بنمسيك بالدار البيضاء.

ولعل مجلة (قاف صاد) التي اقترب منها ودعم أفق مغامراتها تظل شاهدا حيا.. ظل قلبه مفتوحا للشباب، يصغي لحكاياتهم، يقرأ نصوصهم، ويرى في تجاربهم شرارة البداية التي لا يجوز التهوين من أمرها. منحهم الثقة كما تُمنح النار في أول الطريق. ظل يشجعهم ويقرأ لهم ويوجههم دون أن يفرض وصايته، مؤمنًا بأن الأدب لا يعيش بالتلقين، بل باللقاء، وبأن كل نص جديد هو احتمال لخلاص ما.

وفي عام 2002، عندما منح جائزة المغرب للكتاب، رفضها بأدب. كما رفض عرض نخبة من الأصدقاء وإجماعهم بأن يكون رئيسا لبيت القصة في المغرب، ربما لأن الطبقة الرهيفة التي تغطي إحساسه بنفسه وبالعالم من حوله، لديها حساسية عالية تجاه ما يشبه كلمة رئيس أو مدير، أو لأنه يتهيب ببساطة من كل حضور ذي طابع مؤسسي.

وكما غادر المركز الأدبي والمؤسساتي، غادر أحمد بوزفور المركز الجغرافي أيضًا. بعد سنوات طويلة قضاها في العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، عاد مؤخرا إلى تازة، إلى الجذور الأولى، متأثرا بموت أخيه. لعل الجبال التي تروي صمتها للحجر، والحكاية التي تنبع من التراب، تعزيانه وتخففان عنه ألم الفراق.

إنه الكاتب الذي ظل صوته هادئا، ومن بين كل الصفات الجميلة والمغرية، اختار أحمد بوزفور التواضع، كما اختار أن يسير في طريق مظلّل بالأشجار، يرى فيه العالم دون أن يراه أحد.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.