أبناء الجالية المغربية بين نار التهميش ونار الغيرة على الوطن
لا أحد بإمكانه اليوم أن ينكر الدور الهام والفعال الذي تقوم به الجالية المغربية المقيمة بالخارج سواء على المستوى الثقافي او الاقتصادي والدبلوماسي، إضافة إلى مشاركتها السياسية الفعالة في أرض المهجر والأمثلة متعددة في ذلك. ولقد زاد دستور 2011 من أهمية الجالية المغربية التي تعد جزء لا يتجزأ من الوطن، بل هي امتداد له رغم بعد المسافة ومرور الزمن.
ونحن أبناء الجالية نعي بشدة هذه المسؤولية الملقاة على عاتقنا المتمثلة في تمثيل بلدنا الحبيب احسن تمثيل والسعي إلى رفع رايته خفاقة عالية، في حياتنا اليومية وأعيادنا الدينية والوطنية وفي أنشطتنا الثقافية والجمعوية.
لكن ما يحز في النفس ونحن نتابع ونستقرأ الواقع هو تهميش ودفن العديد من الكفاءات الوطنية المخلصة لوطنها ولملكها، تحت ذرائع وأسباب واهية لا عقلانية ولا تتأسس على معطيات علمية مقنعة، وإنما دافعها الغيرة والحسد أحيانا والحقد والكراهية احيانا أخرى، والمصالح الشخصية والولاءات والعطاءات تارة اخرى.
وهذا يعد نوع من العنف بنوعيه المادي والرمزي الذي يمارس عليهم؛ قصد تحطيم معنوياتهم ودفعهم إلى التقوقع والاكتفاء بالتفرج مع الحسرة والأسى، واحيانا دفعهم إلى تسخير كفاءاتهم إلى البلدان الأجنبية عوض أن يستفيد منها بلدهم الذي هو في أمس الحاجة إلى كل فرد من أفراد جاليته المشهود لهم بالكفاءة المهنية والثقة في الإدارة والتسيير والبحث العلمي والصناعة والابتكار والقانون والاقتصاد والتجارة والمال والأعمال والإنتاج والإعلام.
وهذا الواقع المر والمحزن هو حديث غالبية أفراد الجالية المغربية سواء في إيطاليا أو غيرها من بلدان المهجر. فهم يتحسرون على انهم يتوفرون على مؤهلات وخبرات في العديد من المجالات ويرغبون في أن يستفيد منها المغرب وطنيا ودوليا، لكنهم بصطدمون بالمحسوبية وبالصداقة والزمالة و”المقربين أولى” الذين يعرفون من أين تأكل الكتف والذين يتزلفون “لمن يجود أكثر”، فهذا زمن العطاءات لمن يمدح أكثر الجهات المكلفة بملف الجالية المغربية.
والسؤال هو: لماذا تحنيط وتجميد هذه الكفاءات ولماذا يتم إبعادها من المشهد السياسي والاقتصادي والإعلامي ومن تدبير الشأن العام؟ في الوقت الذي يتم احتضانها بالبلد المستقبل بكل ترحيب لقدرتها على الخلق والإبداع والعطاء. ومع ذلك لم يشفع لها كل هذه المميزات لكي تحظى بالتشجيع والتقدير والإعتبار والمكانة والمنصب الذي تستحقه.
والملاحظ؛ أنه على الرغم من التهميش والإبعاد من المشهد الوطني؛ وكل محاولات التأثير على معنوياتها؛ فقد ظلت تلك الكفاءات وفية لوطنيتها وملكيتها الصادقة؛ ولم تحقد أو تكره يوما بلدها الأصلي بأي شكل من الأشكال. والنماذج كثيرة وعديدة ومتعددة ويعرفها الجميع؛ ويصدق فيها قوله تعالى (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. فَمِنْهُم مَن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ. وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.)
لكن إلى متى سيبقى هذا الحيف متسلطا على رقابنا نحن أبناء الجالية المغربية الذين يبذلون الغالي والنفيس من اجل تقديم صورة مشرفة عن المغرب بأرض المهجر؟
إن المكانة في المجتمعات المتقدمة المؤمنة بحقوق الفرد تكتسب بالدور وبالفعل وبالكفاءة والمهارة والقدرة على الأداء؛ وليس بالإرث الاجتماعي أو المصلحي وليس عن طريق الريع والهبات دون مراعاة معايير الكفاءة والنزاهة والمهنية.
إن غياب التفكير المنهجي والتصور الكلي للكفاءات بمختلف أبعادها؛ في خدمة الوطن من خلال العمل الجاد والإيمان بإعمار البلد والقطع مع ثقافة الريع؛ يقود إلى حالة من الشلل والإحباط الحضاري الذي تعاني منه بعض الشعوب والأمم. وهكذا تولد مجتمعات الضعف والهوان؛ بسبب تقزيم المفاهيم والتصورات والرؤى.
وإلى أن تولد عقليات ونخبة قادرة على الخروج عن المألوف وعن المحسوبية والزبونية؛ من جوف النقيض، من النخبة التي ترى مصلحة الوطن فوق كل اعتبار؛ سيبقى ميلاد المشروع الحضاري الديمقراطي مشروع مؤجل، ويفوت الفرصة على الغيورين من أبناء الوطن. فبين إنسان الانتظارية؛ وإنسان الفاعلية؛ توجد هُوَّة ومسافة كبيرة جدًا؛ ناتجة عن كمية المسكنات والعبارات اللفظية والتفاؤل العاطفي؛ التي يقدمها حَرَسُ التخلف كوصفة جاهزة لتبرير حالة الانتظار تلك.
إنه خلل وانفصام في تصور بعض المسؤولين والمكلفين بمشاكل الجالية المغربية؛ وسوء فهم لمعنى العطاء والجد في العمل.
معروف على إنه في كل عصر هناك أفكار سائدة تحرسها مؤسسات شرسة، تجدها مُلِئَتْ حَرَسًا قدِيماً شَدِيدًا؛ من محامين بارعين في المرافعة؛ وعُرابين كثر ومؤيدين ومطبلين؛ ووسائل إعلام وصناع الرأي العام… وغيرهم؛ مع أن الواقع الذي أنشأته وأنتجته؛ يعتبر فاشلًا وبائسًا بكل معايير الحداثة والحضارة والتقدم والديمقراطية والكرامة الوجودية للإنسان؛ بل يتعارض ويتنافى مع مقتضيات تقدم الأمم والشعوب.
فهذه الفئات تشتكي وتتبرأ من الواقع الذي وضعته وأنشأته وخلفته من ورائها؛ وفي نفس الوقت؛ هي من يحافظ عليه ويغذيه ويكرسه ويستبقي على أسس تخلفه.
إن استئصال الوعي الزائف؛ يُعَدُّ إحدى المقدمات المنهجية الصحيحة لإنشاء المجتمعات الحديثة ذات الفاعلية.
وبالتالي كفى من هذا العبث والابعاد والتهميش للكفاءات المغربية بالخارج التي تستحق الاتفاتة والتشجيع والاستماع لحاجياتها ومطالبها المشروعة والعادلة حتى يستفيد منها بلدها الحبيب.
ذ.عبد الله مشنون
اعلامي كاتب صحفي مقيم بايطاليا.
المصدر: العمق المغربي