انعكاس سياسة الصبر الاستراتيجي على خريطة الشرق الأوسط
أمد/ تشتهر إيران بصناعة السجاد وهي الحرفة التي يقوم اتقانها على مدى الصبر الذي يتحمله صانع السجاد، الا ان ذلك ليس بالضرورة ناجحا في السياسة، فالصبر الاستراتيجي الذي مارسته الجمهورية الإسلامية الإيرانية في تعاملها مع مجريات الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة عقب عملية طوفان الأقصى، لم تأت بما تمكن من إنجازه صانع السجاد.
ولكن قبل الخوض في ذلك اود التذكير بتداعيات الأحداث الثلاثة التي جرت في العام ١٩٧٩ وهي على التوالي اسقاط شاه إيران واحتلال الحرم المكي ثم الاحتلال السوفيتي لأفغانستان.
وكأن هذه الاحداث الثلاث حصلت او افتُعلت لتؤسس لنزاع مذهبي على امتداد جغرافية الشرق الأوسط فحادث مكة حصل بالأساس لمنع الحكومة السعودية من تحديث البلد وفرضت عليها التراجع لصالح الأصولية السنية وفي نفس السنة وقع الاحتلال السوفيتي لأفغانستان ليؤسس لبروز التطرف السني المجاهد بتحريض من الولايات المتحدة بحجة الدفاع عن الإسلام من خلال القتال ضد الشيوعية في أفغانستان، فنتج عن ذلك القاعدة وطالبان والمجاهدون العرب الذين اصبحوا مشكلة امنية لبلادهم التي عادوا اليها بعد انسحاب الاتحاد السوفييتي من افغانستان، وقد ترافق مع ذلك وفي نفس العام ١٩٧٩ السماح بإسقاط شاه ايران الذي كان يعترف بإسرائيل، ويعتبر من اقوى حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، والاتيان بآية الله الخميني من باريس ليؤسس الجمهورية الإسلامية التي أصبحت مرجعا وحاميا للطائفة الشيعية في منطقة الشرق الأوسط. والتي عملت علانية على تصدير الثورة بين أبناء الطائفة الشيعية خارج حدود إيران على مدار أكثر من أربعين سنة. فكان حزب الله في لبنان والحوثيون في اليمن والحشد الشعبي والعديد من الفصائل العراقية الشيعية المسلحة في العراق، ناهيك عن تبني وحماية الشيعة في باكستان وأفغانستان، وإذا ما اضيف الي ذلك الغزو الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣ الذي نتج عنه اسقاط النظام ولبننه العراق بحيث اصبحت السلطة التنفيذية حصرا بيد الطائفة الشيعية وبالتالي تم اخضاع العراق عمليا للنفوذ الإيراني. كل ذلك كان مكملا للتحالف الاستراتيجي بين النظامين الإيراني والسوري والذي بدأ أيضا في العام ١٩٧٩ مما ساعد في النهاية على تشكيل الهلال الشيعي الذي فتح ممرا بريا امنا بين طهران وبيروت عبر دمشق التي تعتبر نفسها قلعة المقاومة لمواجهة إسرائيل والتي تحتضن معظم الفصائل الفلسطينية، على الرغم من ان النظام السوري لم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل منذ عام ١٩٧٤ ولم يرد حتى علي أي من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية، الهلال الشيعي رفع راية تحرير فلسطين وشكل لذلك جناحه العسكري الذي سمي بمحور المقاومة والممانعة، الذي هدد مرارا وتكرارا معلنا قدرته على تدمير إسرائيل، وقد استمال بذلك الفصائل الفلسطينية المقيمة في دمشق واولها الفصائل الإسلامية السنية المقاومة.
ما الذي كانت تهدف اليه إيران عندما فرضت رعايتها وحمايتها لأبناء الطائفة الشيعية في المنطقة وما هي أولوياتها، اهي تعزيز مكانة ونفوذ الطائفة في بلدانها؟ ام هي المصالح التي تحددها السياسة الخارجية الإيرانية؟ ام هي فعلا تحرير فلسطين؟ وسؤال اخر اجابت عنه مجريات الاحداث وهو ان الهامش المحلي الذي تتمتع به أذرع إيران في المنطقة يجب ان يصب في مصلحة تعزيز الدور الاقليمي لإيران.
المتتبع لتطورات الاحداث في المنطقة يتبين ان إيران تستثمر في وجود أذرعها وقوتها العسكرية لتحقيق أهدافها الإقليمية والدولية واهمها تحقيق الردع الاستراتيجي من خلال عضويتها في النادي النووي، فهي تريد تثبيت وجودها بصفتها القوة الإقليمية الأهم في المنطقة، واعتراف القوي الدولية وخاصة الولايات المتحدة وأوروبا بذلك.
نظرا لتزعم إيران محور المقاومة فمن الطبيعي ان تعلن ان هدفها النهائي هو تحرير فلسطين وذلك بمقاومة الوجود الإسرائيلي، وهنا يمكننا القول ان المخططين لعملية طوفان الأقصى والذين اعتبروا أنفسهم ضمن محور المقاومة قد توقعوا بعد نجاحهم في اجتياح غلاف غزة ان تبادر قوى هذا المحور للمشاركة في الهجوم على إسرائيل، ولان المحور سيكون مُحرجا لو لم يهب لنجدة أحد أذرعه، لذلك اتخذ حزب الله اللبناني قراره بإسناد غزة، ولكن ضمن قواعد الاشتباك بينه وبين إسرائيل التي رسمتها نتائج حرب عام ٢٠٠٦. ومن المحتمل ان إيران لم توافق على ان تكون مشاركة حزب الله أوسع من ذلك.
المقاومة الباسلة والصمود الأسطوري لغزة امام حرب الابادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في غزة زاد من احراج محور المقاومة الذي انحصرت حركته ومساهمته فقط بالإسناد، وذلك التزاما بسقف المصالح الإيرانية، وفي الأشهر الأولى للحرب حرصت إسرائيل علي تحشيد معظم قوات جيشها واحتياطها علي الجبهة مع غزة املا في حرب سريعة تدمر المقاومة وتحرر الاسرى الاسرائيليين، الا ان المقاومة في غزة نجحت في الصمود والمواجهة بطريقة بطولية لم يتوقعها احد، فانهك الجيش الإسرائيلي ولم يتمكن من تحقيق أي من اهداف حربه التي اعلنها، فقرر فتح الجبهة مع لبنان بحثا عن نصر يعوض فشله في غزة. وعلى الرغم من المؤشرات التي تفيد بنية إسرائيل الهجوم على لبنان ومنها اغتيال صالح العاروري في المربع الأمني للحزب ثم قصف القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال مجموعة مهمة من قيادات الحرس الثوري، واغتيال إسماعيل هنية في المربع الأمني للحرس الثوري في طهران، والمباشرة بنقل قوات الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة الي الحدود مع لبنان واخضاعها للتدريبات اللازمة استعدادا للحرب الا ان الحزب استمر في الاسناد ضمن قواعد الاشتباك، ولم يجرؤ علي كسر قواعد الاشتباك علي الرغم من تصريح القيادة الإسرائيلية بانها ستوسع الحرب، ولم يستغل الحزب المتغيرات على الوضع الإسرائيلي العسكري والاقتصادي وتضعضع الجبهة الداخلية الإسرائيلية. وهنا يطرح السؤال الكبير، هل عدم توسيع الحرب على الجبهة اللبنانية كان قرارا من الحزب ام انه املاءات النظام الإيراني تطبيقا لسياسة الصبر الاستراتيجي التي يعتمدها في التعامل مع الغرب املا في تحقيق أهدافه حول مكانة إيران الإقليمية والدولية؟
بصرف النظر عن التفوق التكنولوجي والاستخباري وفي سلاح الجو الا ان صمود وشجاعة المقاتلين على الأرض هو الذي يحدد في النهاية الفريق المنتصر، وهذا يعكس أهمية القائد الميداني الذي يجب ان يتحلى بالشجاعة والاقدام والذكاء والقدرة على تقدير الموقف مستندا الي حساب عديد قواته ونوعية سلاحه ومخزونه من احتياجات فرقته العسكرية، وكذلك الحرص على استمرارية رفع معنويات جنوده في الميدان، والاهم من كل ذلك قدرته على التقدير الدقيق لقوات العدو ومراقبة حركته ودراسة تأثير ذلك علي سير المعركة، ومهمة هذا القائد الميداني ان يزود قيادته السياسية بتقديره للموقف مشفوعا بتوصيته بالعمل المتوجب فعله سواء كان هجوما واسعا او عمليات جس نبض او غير ذلك.
ومن الطبيعي وشبه المؤكد ان القيادات الميدانية لحزب الله استنادا الي تطورات القتال اليومي في غزة وجنوب لبنان التي لم تكن لصالح إسرائيل، فمن الطبيعي والأكيد ان يفكر القادة الميدانيون لحزب الله في استغلال كل الظروف التي كانت تحيط بالجيش الإسرائيلي وكسر قواعد الاشتباك وتوسيع الحرب، ومن المحتمل ان يكون السيد حسن نصر الله نفسه قد فكر ورغب في استغلال الفرصة وتوسيع الحرب، لكن يبدو ان ذلك لم يكن يتماشى مع سياسة الصبر الاستراتيجي لإيران، فمنعته من تجاوز متطلباتها، وظل القرار السياسي للحزب ملتزما بقواعد الاشتباك الى ان بادرت إسرائيل بهجومها ونجاحها في تصفية معظم قياداته
صحيح ان مقاتلي الحزب قاتلوا ببطولة وصمدوا في مواجهة الجيش الإسرائيلي ومنعوه من اجتياح المنطقة حتى الليطاني، الا ان التفوق التكنولوجي والتفوق في سلاح الجو والتفوق في الاستخبارات قد حقق إنجازات هامة أهمها اغتيال معظم قيادات الحزب وعلى راسهم الأمين العام السيد حسن نصر الله، واذا ما اضفنا الى ذلك ضغط المعادلة الداخلية اللبنانية، الامر الذي أجبر الحزب على وقف إطلاق النار، وبذلك خسر الحزب الكثير من اوراقه أولها ورقة الردع في مواجهته مع إسرائيل، وثانيها الورقة الإقليمية في دور الحزب في سوريا وثالثها ان وضع الحزب في المعادلة الداخلية اللبنانية لم ولن يعود كما كان عليه قبل هذه الحرب.
في اليوم التالي لوقف القتال في لبنان وفي غضون أيام قليلة انهار النظام السوري وترك الجيش مواقعه مخلفا وراءه أسلحته ومعداته، وانسحبت إيران من سوريا ودخلت إسرائيل واحتلت أراضي سورية ودمر سلاحها الجوي كل الإمكانيات العسكرية للجيش السوري.
بسرعة غير معهودة وغير متوقعة فانقطع تواصل الهلال الشيعي وخسرت إيران موقعها في سوريا الذي استثمرت فيه لأكثر من أربعين سنة وكلفها عشرات المليارات من الدولارات، وبتغيير النظام السوري خسر حزب الله طريق امداده بالسلاح، وبالتالي سيخسر قوته المؤثرة محليا وإقليميا، وفي التركيبة الداخلية اللبنانية ستظهر قوى سياسية شيعية وطنية مختلفة عن الثنائي الشيعي الذي لن يستمر في احتكار تمثيل الطائفة الشيعية في لبنان.
كل ذلك حصل نتيجة لاعتقاد القيادة الإيرانية بجدوى تكتيكاتها تحت شعار الصبر الاستراتيجي وان دل ذلك على شيء فإنما يدل أولا على ان أولوية إيران كانت في الحقيقة مصالحها في المعادلتين الإقليمية والدولية على حساب مصالح ومتطلبات المنطقة وحتى على حساب مصالح أذرعها فيها، وهذا يعني ان إيران لم تكن يوما مع المقاومة حتى الشوط الاخير وانما هي مع المقاومة الى ان تتحقق مصالحها فقط.
فهل نستطيع القول بان تمسك إيران بسياسة الصبر الاستراتيجي وعدم سماحها بتغيير قواعد الاشتباك وعدم موافقتها على توسيع الحرب في الوقت المناسب، قد أدى الي ما حل بحزب الله وقياداته، ولان ما حدث في سوريا كان مرتبطا بشكل او اخر بنتائج الحرب في لبنان، فان تكتيكات إيران أدت الى انسحابها من سوريا، وقطع تواصل الهلال الشيعي الذي بنته، فهل كان ذلك خروجا نهائيا لها من المنطقة ام اننا على أبواب مغامرات جدية لإيران في محاولة لبقائها ولمنع الامتداد التركي في المنطقة. ما زال لإيران قواعد في المنطقة، ولكنها ليست بالقوة والنفوذ التي كانت تتمتع بها عندما كانت إيران في سوريا وقبل وقف إطلاق النار في لبنان، ومازال لإيران قدرة على دعم الفصائل المسلحة وكذلك القدرة على استخدام الدبلوماسية الاقتصادية، لحماية مصالحها الاستراتيجية. فهل تفعل؟
ام ان ما حصل يعني ان ورقة ابراز النفوذ الشيعي قد انتهي مفعولها وحان وقت تحجيمها؟
ام هل سيتم استدراج إيران لمعركة عسكرية بمشاركة أمريكية؟ وهل هذا يعني ذلك بالضرورة تغيير النظام الديني في إيران؟
بعد حرب السويس ١٩٥٦ تمكنت الولايات المتحدة الأميركية من انتزاع موقع قيادة العالم الغربي من القارة الأوروبية العجوز، وبدأت تمارس هيمنتها على الشرق الأوسط بوسائل مختلفة، وقد انشات أنظمة حكم ومنظمات ومؤسسات وميليشيات وظيفية والبستها اقنعة تقدمية او دينية، وتخلصت منها بعد انتهاء وظيفتها.
المايسترو الأميركي عندما تقتضي مصلحته ان يكون له عدوا، يقوم بإيجاده ويموله ويُكّبر حجمه، ويستعمل ذلك كمبرر لتدخله هنا وهناك، وببساطة عندما تقتضي مصلحته الغاء هذا العدو، يقوم بتصفيته وانهائه. والامثلة على ذلك كثيرة.