في خضم الحياة، يمر العيد كظاهرة إنسانية تتجاوز حدود الزمان والمكان، ليكون طقسًا فلسفيًا يعكس جوهر الوجود، حيث يتلاقى الفرح مع الألم، والحياة مع الموت، في رقصة أزلية لا تنقطع. العيد ليس فقط مناسبة دينية أو اجتماعية، بل هو لحظة استثنائية يُختبر فيها معنى الحياة بكل أبعادها، إذ يُجسد في لحظاته معاني التضحية، الفداء، والتجدد. في غزة، حيث تسكن الحرب والدمار، يصبح العيد أكثر من طقس؛ إنه فلسفة حياة تنبض وسط الظلام، تحدّق في وجه الموت، وتصرخ بصمتها أن لا شيء يستطيع أن يقهر إرادة الإنسان في أن يعيش، يحلم، ويحتفل.

في غزة، لا يأتي العيد محملاً بأجنحة الفرح كما في بقاع الأرض الأخرى، بل يهبط كطيفٍ شاحب اللون على أنقاض الحياة، يستقرّ في زوايا الذاكرة التي تعجّ بالألم والغياب. حيث لا تزيّن الشوارع أضواء البهجة، ولا تنهمر فيها رذاذ الضحكات، بل يمرّ العيد مثقّلاً بجراحٍ لا تشفى، وبأسئلةٍ فلسفية عميقة حول معنى الفداء والوجود. هنا، العيد ليس حدثًا عابرًا، بل اختبارًا للإرادة الإنسانية التي تصرّ على الحياة وسط الخراب.

عيد الأضحى، الذي هو في جوهره تجسيدٌ لطقوس التضحية والإيمان، يتحوّل في غزة إلى مرآة تعكس مأزقًا إنسانيًا بليغًا. من هو القربان حقًا؟ وأين يقف الإنسان في هذه اللعبة القاسية؟ لا كبش يُذبح هنا، بل تُذبح براءة الطفولة، وتُهدَر كرامة الإنسان بلا رحمة، وتُدفن الآمال تحت أكوام الركام. صوت التكبير يتردد خافتًا، لا يملؤه الفرح، بل حزنٌ عميق ينبع من قلب جرح لا يندمل.

الطفل في غزة لا يسأل عن هدايا العيد، بل يسأل أمه: هل سنبقى على قيد الحياة حتى نحتفل بالعيد القادم؟ والأم لا تحضّر الملابس الجديدة، بل تحنو على بقايا الحنان في قلبٍ ثكلته المصائب، تحاول أن تخفي دموعها خلف ابتسامةٍ متعبة. والأب، في صمته العميق، يحمل أعباء صراع الحياة في زمنٍ صار فيه الفرح تمرّدًا على واقع القهر.
الشباب في غزة، رغم أنف الزمن وقسوته، هم النبض الذي لا يتوقف، يحملون على أكتافهم أعباء الحاضر ويزرعون بذور المستقبل رغم الخراب. في العيد، لا ينكفون عن بناء أمل، يشيّدون من تحت الأنقاض جدران الحياة، يعيدون كتابة معاني الصمود والكرامة في صفحات الزمن. أما كبار السن، فهم سجّلة الذاكرة الحية، وحراس الحكمة في زمن الفوضى، يحملون في وجوههم قصص العشق للأرض، وصبرًا يشبه الجبال. في العيد، يمنحون دروسًا في التحمّل والرجاء، ويذكرون الجميع أن العيد عهدٌ متجدد بين الإنسان وحياة لا تنتهي.

لكن غزة ليست مجرّد مكان للألم، بل هي معبر للإرادة التي لا تنكسر، رغم كل محاولات التدمير. في زوايا الأحياء المهدّمة، تنبت أشجار الحياة بصمت، ويمضي الأطفال يركضون بأمل محفوف بالمخاطر، يحاولون رسم ألوان الحياة في أفقٍ رماديّ. هنا، الفرح لا يُقدّم كترف، بل هو مقاومةٌ بحد ذاتها، ونشيدٌ للحياة رغم كل الألم، يُعلن أنهم يحبون الحياة المفقودة.

وليس صحيحًا أن نضع أهل غزة في قالب "الضحايا" فقط، فهم ليسوا قربانًا يُقدّمون على مذبح، ولا رموزًا للبطولة تُستغلّ، بل بشرٌ لهم الحق في أن يعيشوا بكرامة، أن يحتفلوا، أن يحلموا. من يتعامل معهم كضحايا أو أرقام أو قرابين فقط يكون قد جردهم من إنسانيتهم، وغيّب أصواتهم التي تنادي بالعدل والسلام. الألم ليس قَدَسًا يصنع من الناس أنبياء، بل هو مرآة تكشف قسوة العالم، وتجعل من المعاناة صرخة تستحق أن تُسمع.

في هذا العيد، لا ترفع غزة راية الخضوع، بل راية الصمود. امرأة تخبز رغيفًا من فتات الأمل، وطفل يصنع طائرًا من ورق مهترئ، وشاب يبني أحلامه من جديد وسط الأنقاض. إنهم يقدمون للعالم درسًا في معنى الحياة: أن الفرح موقف، وأن العيد هو الحياة التي تستمر رغم كل شيء.

أما العالم، فيجب عليه أن ينظر إلى غزة بعين الإنسان، لا بعين المتفرج. لا يكتفي بإلقاء النظرات الشفقة أو تعاطي الرموز. لا يُعيد صياغة الألم في صورٍ وأحاديثٍ فارغة، بل يتحمل مسؤولية الإنسانية، ويدرك أن العدالة هي الفداء الحقيقي. فغزة التي تحتفل بالعيد بين القصف والصمت، تستحق أن يعيش أطفالها عيدهم بلا خوف، وأن ترفرف أجنحة الأمل فوق سمائها بلا حواجز.

في لحظة عيد، بينما العالم يرفع الأكف بالدعاء، هناك طفلٌ غزّي يحدّق في السماء لا يراها إلا غائمةً بظلال الطائرات. ومع ذلك، يمد يده إلى الحياة، كزرع وردةٍ في صحراء القهر، يهمس: "لن أنسى كيف أفرح، حتى وإن تواطأ الجميع على نسياني."

فالعيد في غزة ليس مجرّد طقس، بل فلسفة حياة في وجه الموت، قصيدة من كلمات الصبر، ونشيدٌ للكرامة التي لا تُقهر. هو وعدٌ بأن الغد يحمل بين طيّاته نورًا لا ينطفئ، وإن كانت الدنيا أحيانًا تتنكّر للغزيين، فإن غزة ترفض أن تنكسر، وتُعيد تعريف الفداء ليس بدماء الضحايا، بل بصمود الحياة وعزيمة الأحياء.

شاركها.