أمد/ في دروب النضال الفلسطيني الممتدة بين المنافي والمخيمات وساحات المواجهة، يبرز اسم العقيد وليد محمود إبراهيم المدهون (أبو محمد) كأحد رموز جيل لم يعرف إلا الانتماء لفلسطين، جيل تربى على الحكايات الأولى للنكبة، وشبّ على عهد الثورة والكفاح، ومضى عمره مدافعًا عن قضيته دون كلل أو تردد.

من المجدل إلى غزة: جذور اللجوء وبداية الوعي

وُلد وليد المدهون في حي الزيتون بمدينة غزة، لعائلة فلسطينية هجّرها الاحتلال الإسرائيلي من مدينة المجدل المحتلة عام 1948م، فاستقرت في البداية بمدينة غزة، ثم انتقلت لاحقًا إلى مخيم جباليا شمال القطاع، حيث ترعرع بين جدران اللجوء التي صقلت شخصيته وزرعت فيه بذور الوطنية والكرامة.

تلقى تعليمه الأساسي والإعدادي في مدارس وكالة الغوث للاجئين، وتخرج من المرحلة الثانوية وهو يحمل في قلبه وعقله همّ الوطن المحتل، لينضم في ريعان شبابه إلى صفوف حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح، ويبدأ مشوارًا نضاليًا طويلًا.

الاعتقال في سجون الاحتلال

بسبب نشاطه الوطني، اعتُقل وليد المدهون على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 1984م، وقضى أربع سنوات في سجون الاحتلال حتى عام 1988م، وهي سنوات تركت في شخصيته بصمة لا تُمحى، وعززت من وعيه السياسي، وإيمانه بعدالة قضيته، والتزامه بخيار النضال حتى التحرير.

الانتفاضة الأولى: القائد الشعبي في المخيم

عقب خروجه من الأسر، انخرط المدهون في صفوف الانتفاضة الأولى، حيث كان من أوائل مؤسسي اللجان الشعبية في مخيم جباليا، والتي لعبت دورًا مركزيًا في التنظيم الشعبي للمقاومة ضد الاحتلال. عُرف بين أبناء المخيم بحضوره الميداني، وقدرته التنظيمية، وحرصه على وحدة الصف وحماية النسيج المجتمعي وسط ظروف قاسية.

في الأمن الوقائي: خدمة الوطن من موقع المسؤولية

مع عودة قوات الأمن الوطني الفلسطيني إلى أرض الوطن عام 1994م، التحق المدهون بجهاز الأمن الوقائي الفلسطيني، واجتاز دورات عسكرية متقدمة، وتدرّج في المناصب حتى أصبح مساعدًا لمدير الجهاز في محافظة الشمال، ومسؤولًا عن الملف الإسرائيلي، وهو من أكثر الملفات الأمنية حساسية في تلك المرحلة.

وفي موازاة ذلك، التحق بـجامعة القدس المفتوحة، وحصل على درجة البكالوريوس في الخدمة الاجتماعية، إيمانًا منه بأهمية العلم في خدمة المجتمع وتعزيز الوعي الوطني لدى الأجيال القادمة.

الانتفاضة الثانية: قيادة العمل المقاوم

مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000م، كان وليد المدهون من أبرز قيادات كتائب شهداء الأقصى في شمال قطاع غزة، حيث ساهم في قيادة العمل المقاوم، إلى جانب مواصلة دوره التنظيمي في حركة فتح. لم يكن بعيدًا عن الخطر، بل ظل في ميادين المواجهة، مشاركًا في التصدي للاجتياحات ومؤمنًا بأن النضال هو خيار لا رجعة عنه.

رجل الإصلاح والمجتمع

بعيدًا عن ساحة الاشتباك، كان المدهون رجلًا اجتماعيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. كان بيته مفتوحًا لكل من قصده، وساهم على مدار سنوات في حل النزاعات العائلية، والقيام بدور الإصلاح في المجتمع المحلي. حاز احترام وجهاء غزة ومخيماتها، وكان له حضور مميز في كل ساحة تتطلب حكمة وصوت العقل.

الثبات في زمن الانقسام

في عام 2007م، وبينما عصفت الفتنة والانقسام بالمشهد الفلسطيني، بقي وليد المدهون وفيًا للشرعية الفلسطينية وقيادتها التاريخية. رفض الانخراط في أي مشاريع تقسيمية أو فئوية، وتحمل الكثير في سبيل موقفه الوطني الواضح.

التقاعد… ولكن دون تقاعد عن الواجب

في نوفمبر 2017م، تقاعد العقيد وليد المدهون من عمله الرسمي، حاملاً رتبة عقيد، لكنه لم يتقاعد عن خدمة الناس أو عن الانشغال بقضايا وطنه. بقي حاضراً في الميدان، وفي المجالس، وفي تفاصيل الحياة اليومية لأهله في غزة.

في حرب أكتوبر 2023: من الصمود إلى الرحيل

مع بدء العدوان الإسرائيلي الشامل على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023م، نزح المدهون مع عائلته إلى مدينة دير البلح، تحت وطأة القصف والمجازر والجوع والعطش. بعد عدة أشهر، عاد إلى مخيم جباليا ليجد منزله وبيت العائلة مدمّرين بالكامل، فانتقل إلى حي الشيخ رضوان، حيث أقام رغم الدمار، ورفض المغادرة مرة أخرى.

لكن ضغط الحصار وإلحاح أقاربه اضطره إلى النزوح مجددًا لدير البلح، حيث عاش ظروفًا مأساوية دون مأوى أو خيمة أو أدنى مقومات الحياة. بقي صامدًا محتسبًا، يأمل أن تشرق شمس السلام، لكن الأجل كان أقرب.

الرحيل الصامت

في مساء الأربعاء الموافق 8 أكتوبر 2025م، أصيب العقيد وليد المدهون بوعكة صحية أدخل على إثرها المستشفى، حيث فاضت روحه إلى بارئها، شهيدًا من شهداء الصمود الإنساني في وجه الحصار والجوع والحرب.

إرث خالد في الذاكرة

ترك العقيد وليد المدهون خلفه زوجة وفية، وستة من الأبناء (ثلاثة ذكور وثلاث إناث)، وترك قبلهم سيرة ناصعة من الكفاح والوفاء والانتماء.

كان نموذجًا للمناضل الوطني الشريف، والضابط الميداني، والمصلح الاجتماعي، واللاجئ الذي لم يغادره حلم العودة.

رحم الله وليد المدهون… الرجل الذي ظل واقفًا حتى النهاية.

شاركها.