وقفات مع ليلة القدر

المتأمل في أحوال هذا الكون يجد أنه جل وعلا يخص من الأشياء والأزمنة ما يشاء لمقاصد عظمى وآيات كبرى تقوم عليها مصالح العباد، فلا شريك له يختار كاختياره ويدبر كتدبيره، قال الله تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار} القصص:68.
وإن مما خصه الله لعباده من الأزمنة ليلة القدر، فليلة القدر لها شيء عظيم عند الله ومكانة كبيرة في نفوس المسلمين، وسمّيت بهذا لأن الله يقدر فيها كل ما أراده في تلك السنة إلى ليلة القدر الأخرى، قال الله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} الدخان:4، وهذا ما يعرف بالكتابة السنوية، أما الكتابة العامة التي كانت في اللوح المحفوظ كانت قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما صح ذلك عن النبي. ولأنه يكثر فيها تنزل الملائكة إلى الأرض حتى تضيق بهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى” رواه أحمد.
ولمكانتها جعلها الله مباركة، لقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة}، ومن بركتها أن الله جعلها وقت نزول كلامه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة بالسماء الدنيا، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع والأحداث في 23 سنة على نبينا بواسطة جبريل. وأن الله جعلها خيرا من ألف شهر، أي العمل فيها يفضل العمل في أكثر من 83 سنة ليس فيها ليلة القدر. أما عن وقتها، فإنها في العشر الأواخر من شهر رمضان، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان” متفق عليه.
وأرجى لياليها ليالي الوتر، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان” رواه البخاري. وأرجى ليالي الوتر ليلة السابع والعشرين، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالا من أصحاب رسول الله أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر” متفق عليه، وهذا ما عليه عمل الناس منذ مئات السنين إلى يومنا هذا. وذكر أهل العلم أنها متنقلة بين ليالي العشر الأواخر من رمضان، فمن كان متحريها فليتحرّها في سائر هذه الليالي.
أما علاماتها، فقد أخفى الله بيانها لحكم لعل أبرزها: ليجتهد العباد في طلبها في سائر الليالي، وليتبيّن المجتهد في طلبها من المتكاسل. ورغم أنها أخفيت عن الأمة، إلا أنه جاء ما يميّزها عن بقية الليالي، وهذا فيه بشارة لمن اجتهد فيها بالقربات أنه وافقها، والأمر يكون على الظن لا الجزم. ومن أبرز علاماتها يكون الجو فيها معتدلا، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليلة القدر ليلة سمحة طلقة، لا حار ولا بارد، تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء” رواه البيهقي.
تتنزل في تلك الليلة السكينة والطمأنينة على من يتحرونها بالطاعات، وتطلع الشمس في صبيحتها صافية لا شعاع لها، فعن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “صبيحة ليلة القدر تطلع الشمس لا شعاع لها كأنها طست حتى ترتفع”.
ويشرع إحياؤها بقراءة القرآن والصلاة والاعتكاف وسائر القربات، لاسيما الدعاء الذي علمه الرسول لعائشة حينما قالت له: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: “قولي اللهم إنك عفوّ تحبّ العفو فاعف عنّي”. والحكمة من تخصيص العفو في هذه الليلة أن يجتهد الصالحون في الطاعات، فيلتجئون إلى طلب العفو من الله كحال المذنب المقصّر، فينبغي لنا أن نتحرى ليلة القدر بالطاعات والقربات اقتداء بالنبي، وطلبا للمغفرة وخوفا من العقاب، وينبغي لنا أن نأمر بها أولادنا وأزواجنا.
* إمام خطيب أول بمسجد عثمان بن عفان عين وسارة الجلفة