أمد/ بات مؤكداً، إلى حد اليقين، أن العدوان الإسرائيلي على الدوحة، وعلى الوفد الفلسطيني المفاوض، في 9/9/2025، كان بعلم مسبقاً، وتواطؤ، بل بمشاركة من الولايات المتحدة، وأن قاعدة العديد الأميركية في الجزيرة، أعطيت التعليمات بعدم اعتراض الصواريخ، الأمر الذي يعيدنا إلى السؤال المهم في قراءة الحدث وتداعياته: لماذا وافقت واشنطن على توجيه ضربة «غادرة» للدوحة، في محاولة اغتيال قادة حماس، بعد 24 ساعة من وصول العرض الأميركي لوقف النار في قطاع غزة؟ هل كان ذلك استخفافاً من واشنطن بقيادة الدوحة، علماً أن هذه القيادة أدت للولايات المتحدة خدمات جمى، بمهاراتها في لعب دور الوسيط بالقضايا الكبرى، عبر النفس الطويل، والوصول بكل وساطة إلى بر الأمان، معتمدة على موقعها غير المنحاز، وقدرتها على دعم وساطتها بالقدر الكافي من المساعدات المالية، ما يشجع الفرقاء على التجاوب مع الوساطة القطرية؟

هل تمت معاقبة الدوحة على «إنحيازها» لجانب حماس، كما ادعى نتنياهو أكثر من مرة؟

لا يمكن اتهام قطر بالإنحياز إلى حركة حماس، فالمساعدات المالية السخية التي كانت تقدمها لها، عبر مطار بن غوريون، كانت بالضرورة بموافقة الولايات المتحدة وإسرائيل، أما استقبال قطر قيادة حماس للإقامة في الدوحة، فكانت ربطاً بالدور الوسيط لقطر في وقف حرب غزة، وما كان ذلك ليحدث لولا الطلب الأميركي، بحيث تكون حماس تحت الرعاية القطرية، ما يسهل على الدوحة وساطتها.

أين أخطأت قطر في وساطتها بين إسرائيل وحماس؟!

في تقديري أن قطر لم تخطئ، وأنها كانت حقاً ضحية لعمل إسرائيلي غادر، ولخيانة أميركية، أحدثت في النفوس داخل قطر وخارجها أثراً كبيراً، بغض النظر عن موقف كل منا من هذا الظرف أو ذاك.

إن المسألة لا تتعلق بالتزامات الدوحة بالحياد في وساطتها، بل وكما هو واضح في سياسة تل أبيب وواشنطن من مستقبل الحرب في القطاع ومصيره.

منذ اليوم الأول الذي استعادت فيه قيادة الاحتلال وعيها وإدراكها لما وقع في قطاع غزة في 7/10/2023، أعلنت بوضوح أن حربها ضد قطاع غزة سوف تكون حرباً وجودية، لا تنتهي إلا بإزالة القطاع من الوجود، عبر تدميره تدميراً شاملاً، وتهجير سكانه، والإستيلاء عليه في إطار مشروع توسيع إسرائيلي، وبناء الدولة التلمودية التي أطلق مشروعها مع تسلم حكومة نتنياهو السلطة نهاية العام 2022، وأعلنت عزمها على ضم الضفة الغربية.

وإذا كانت إسرائيل إتبعت بعض السياسات التكتيكية خلال الحرب، عبر محطات تهدئة، نجحت خلالها في استعادة بعض أسراها لدى المقاومة، غير أن نضوج مشروع الدولة التلمودية، ومشروع الضم، ومشروع الحرب الوجودية، عبر عن نفسه مع وصول إدارة ترامب إلى البيت الأبيض، وكانت الإشارة الخضراء يومها إعلان ترامب عزمه تهجير سكان القطاع، وتحويله إلى «ريفييرا الشرق الأوسط» مشروعاً عقارياً استثمارياً، لا يرى في سكان القطاع شعباً بل مجرد أفراد يمكن انتقالهم من مكان إلى آخر، لا يرتبطون بوطن ولا بهوية وطنية ولا بتاريخ وبحاضر ومستقبل حافل بالأحلام والتمنيات الإنسانية.

ورغم تراجع ترامب (لفظياً) عن مشروع «ريفييرا»، إلا أن نتنياهو بقي على ولائه له، حين انقلب في 2/3/2025 على إتفاق التهدئة في 19/1/2025، والذي كان من أهدافه الرئيسية تقديم هدنة إلى ترامب باعتباره، وحسب ادعائه رجل سلام يرغب في الوقف الفوري للحرب في قطاع غزة.

ودون الدخول في التفاصيل لما بعد ذلك يمكن أن نلاحظ التالي:

• إن نتنياهو وترامب جعلا من مسار إطلاق مبادرة لوقف النار مجرد غطاء لإدامة الحرب، التي أخذت منحى أكثر قسوة، جمعت بين القتل والتجويع والتعطيش.

• إن المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف لعب هو الآخر في إنجاح إستراتيجية ترامب نتنياهو، حين تلاعب بالوسيط القطري والوسيط المصري والمفاوض الفلسطيني، في لعبة سخيفة هدفها إجهاض أية محاولة للوصول إلى إتفاق بوقف النار، ووضع حد للحرب، وإنقاذ القطاع من الموت.

• أن هذه السياسة أنضجت الجو ليطلق نتنياهو شروطه الخمسة لأي إتفاق:

1 إطلاق سراح الأسرى اليهود؛ 2 نزع سلاح حماس؛ 3 نزع سلاح قطاع غزة كاملاً؛ 4 إدارة لقطاع غزة لا مكان فيها لحماس أو فتح أو السلطة الفلسطينية؛ 5 سيطرة إسرائيلية على القطاع لقطع الطريق على أي «طوفان أقصى» جديد.

وبذلك تحولت شروط نتنياهو الخمسة إلى المبادرة الوحيدة لوقف النار، تغطيها (للأسف) دعوات عربية وفلسطينية على أعلى المستويات، تدعو حماس لتسليم سلاحها وإطلاق سراح الأسرى اليهود، في خطوات هي أقرب إلى الإستجابة لشروط نتنياهو، في رهان برز في رام الله، يعتقد أن مطاف الأمور سينتهي إلى تسليم السلطة الفلسطينية زمام قطاع غزة، في تعامي واضح وصريح عن مشروع نتنياهو ومشروع ترامب، ما شكل حالة إنكار فلسطينية رسمية للواقع، ولما هو مرسوم إسرائيلياً وأميركياً.

أمام صلابة حماس وثبات مواقفها، وأمام صمود سكان القطاع، وعزمهم التمسك بأرضهم ووطنهم، أياً كان الثمن، تعززت قناعة واشنطن وتل أبيب أن الطريق إلى صفقة مقبولة فلسطينياً، يباركها الوسطاء العرب، بات أمراً شديد الصعوبة، بل بات مستحيلاً دون إحداث صدمة في المسار العام للقطاع يقوم على التالي:

• توجيه ضربة قاصمة لحماس، تضعف تماسكها وثباتها، تلحق بها أذى كبيراً، يرغمها على الجلوس إلى طاولة الاستسلام.

• وفي السياق؛ توجيه ضربة إلى الوسيط الأول (قطر)، يخرجها من موقعها «الحالي» إلى موقعها الجديد، الإشراف على الجنازة الفلسطينية تشييع قيادات حماس إلى مثواهم الأخير، وتشييع قضية القطاع إلى قلب المشروع الأميركي الإسرائيلي، غير أن فشل اغتيال قيادة حماس، رغم التحضير المسبق له، أفشل الخطة، وأعاد القضية إلى مربع جديد يختلف عن المربعات السابقة.

• إبقاء خطة اغتيال قيادة حماس أولوية إسرائيلية، ترجمها نتنياهو بالتهديد السافر إلى العواصم التي يمكن أن تستضيف قادة حماس والمقاومة، بما في ذلك الدوحة نفسها، التي هددها نتنياهو بأن الضربة سوف تتكرر في لحظة ما.

• بناء عليه؛ إغلاق الباب أمام أية مبادرات لصفقات جديدة، واعتماد شروط نتنياهو الخمسة هي الإستراتيجية المعتمدة.

في هذا السياق؛ تأتي خطة إستكمال غزو غزة واحتلال القطاع، عبر الشروع بتدمير مدينة غزة وتهجير سكانها.

• لا دور بعد الآن لوسيط محايد. على الوسيط أن يضغط على حماس للاستجابة لخطة الاستسلام الإسرائيلية.

ولا شك أن تصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في الدوحة كشفت عن ذلك حين دعا القيادة القطرية للضغط على حماس.

وهو ما يفسر في الوقت نفسه تراجع دور الوسيط المصري، كونه «غير مؤهل» لأي دور في المشروع الأميركي الإسرائيلي، بل عنصر «معطل» لرفضه تهجير سكان القطاع إلى الأرض المصرية.

تصريحات حماس على لسان باسم نعيم وغازي حمد، عضوي المكتب السياسي، تؤكد أن الحركة لا ترغب الآن في دخول أية مبادرة خاصة، وأن المبادرة الوحيدة المطروحة على الطاولة هي «مبادرة» نتنياهو بشروطها الخمسة.

الدوحة من جانبها أبدت رغبة في التمهل في استعادة دورها وسيطاً، بما يتيح لها إعادة دراسة (قراءة) موقعها وموقفها وما هو مطلوب منها، وما هي استعداداتها لذلك، وهل ما زالت وسيطاً أم أن الولايات المتحدة نزعت عنها هذا الموقع، وتريد لها موقعاً آخر لا تقوى عليه؟!

ما شهدته الدوحة من إجتماعات أهمها القمة العربية الإسلامية، والقمة الخليجية، واجتماع القادة العسكريين لدول الخليج، وما أسفر عنه من نتائج.

كذلك ما شهدته الرياض من إتفاق دفاعي عن استراتيجي بين العربية السعودية والباكستان، ما تلاه من تداعيات ومراجعات في عواصم المنطقة بمشرقها وخليجها، كلها تحمل في طياتها مؤشرات شديدة الدلالة.

لكن الجزم، أن أقرب إلى هذه الدلالات، أن الدوحة لم تعد وسيطاً بين الفلسطينيين وإسرائيل، وأن حرب نتنياهو باتت هي «المبادرة الوحيدة» المعروضة في المنطقة، وأن هذه المبادرة لا تستدعي وسطاء عرب، بل تستدعي سياسة عربية شديدة الوضوح، تدرك جيداً أن مصير قطاع غزة لا ينعكس على فلسطين وحدها، بل على مصر بشكل رئيس.

وأن مصير الضفة الغربية لن ينعكس على فلسطين وحدها، بل على المملكة الأردنية كذلك.

وما زالت كرة النار تتدحرج.

شاركها.