أمد/ تثير التصريحات الأخيرة التي صدرت عن قيادات في حركة حماس تجاه مصر والأردن حالة من التوتر والقلق لدى المراقبين، ليس فقط بسبب نبرتها العالية، بل لتوقيتها ودلالاتها التي تتقاطع مع تعقيدات إقليمية متشابكة. العلاقة بين حماس والقاهرة لطالما اتسمت بالتذبذب، لكنها بقيت في حدود التفاهمات غير المعلنة، التي كانت تفرضها ضرورات الملف الفلسطيني وحساسية الدور المصري فيه.

اليوم ومع اشتداد الحصار وتراكم الخسائر، تعود حماس إلى الخطاب التصعيدي، ما استدعى ردودًا مباشرة من مستويات رفيعة في مصر والأردن، وهو ما يعكس تغيرًا واضحًا في المزاج السياسي لدى العواصم التي اعتادت التحفظ على الرد علنًا. وقد يكون هذا التصعيد علامة على فتور في الثقة، أو بداية لإعادة تشكيل أدوار الأطراف الفاعلة في القضية الفلسطينية، خصوصًا أن الوساطة المصرية لطالما كانت حاسمة في محطات كثيرة.

اللافت أن نفس القيادات التي توجه اليوم سهامها نحو القاهرة كانت قبل أشهر تمتدح الموقف المصري في رفض التهجير، وتشيد بصموده أمام الضغوط الأمريكية، بل واعتبرته سدا منيعا أمام مشاريع تصفية القطاع، فكيف يمكن لهذا التحول أن يمر دون تساؤل؟ وكيف يُعقل أن تُحمَّل مصر وحدها مسؤولية مأساة غزة بينما السيطرة الكاملة على المعابر هي بيد الجانب الإسرائيلي؟

الأصعب في المشهد أن بعض الدعوات الصادرة من قيادات حماس لم تطلب فقط دعمًا سياسيًا أو ضغطًا دبلوماسيًا، بل طالبت مصر عمليًا بالدخول في المواجهة. هذه الدعوات تبدو منفصلة عن الواقع، ولا تأخذ في الحسبان موقع مصر وتعقيدات أمنها القومي، فضلًا عن أن فتح المعابر لا يمكن أن يتم إلا بموافقة إسرائيل التي تتحكم بكل المنافذ، وهو أمر يدركه قادة الحركة أكثر من غيرهم.

ومن الظلم أن تُحمّل مصر وحدها كلفة انسداد الأفق السياسي، أو أن يُطلب منها تصحيح نتائج قرارات لم تكن شريكة فيها. الجميع يعلم أن القاهرة سارعت في أكثر من مرة إلى نزع فتيل الحرب، وأنها لعبت دورًا مركزيًا في فرض هدنات مؤقتة جنّبت القطاع حمامات دم إضافية، كما أنها رفضت الانخراط في صفقات دولية مشبوهة كان من شأنها أن تغيّر الجغرافيا السكانية لغزة، وتحولت بفعل موقفها إلى حاجز فعلي أمام مخطط التهجير.

المعاناة اليوم لا يمكن إنكارها، لكن تعقيد الحلول لا يعني أن يُلقى باللوم على من حافظ على الحد الأدنى من التوازن. لا توجد جهة يمكنها وحدها أن تفتح المعبر أو تمرر المساعدات دون تنسيق أو ضمانات، والمسألة لا تتعلق فقط بإرادة سياسية، بل بإرادة دولية تكاد تكون غائبة أو متواطئة. ومع ذلك لا تزال مصر تحاول، بما بقي لها من أدوات تأثير.

أما حركة حماس، فهي أمام مفترق طرق، لأن إنهاء الكارثة يتطلب قرارًا صعبًا يتعلق بإطلاق سراح الرهائن وفتح ممر آمن، وهو ما يُعتبر في عرفها تنازلًا عن مبدأ، وقد يؤدي إلى اهتزاز داخلي في بنيتها. لكنها، في المقابل، تدرك أن الإبقاء على هذا الوضع قد يفضي إلى تحميلها المسؤولية التاريخية عن أكبر نكسة تصيب غزة منذ عقود.

لا يمكن إنكار أن الشارع العربي، وخصوصًا البعيد عن تفاصيل المشهد، يحمل القاهرة أحيانًا أكثر مما تحتمل. صورة شاحنة المساعدات العالقة أكثر تأثيرًا من نص اتفاقية معبر، وصوت الطفل الجائع أعلى من تعقيدات القرار السيادي، لكن الواقع يقول إن قطاع غزة محاصر فعليًا من طرف واحد، وإن الحل ليس في العتب، بل في تفاهمات جديدة تنقل الملف من مربعات المناورة إلى مساحات الحل.

لقد اختارت مصر الانحياز إلى شعب غزة في اللحظة التي اختار فيها البعض لغة التحدي والمغامرة. لم تتخلّ عن دورها، ولم تغلق الأبواب، لكنها ترفض أن تُزج في معركة لم تكن من صُنعها. أما الاتهامات التي تُطلق جزافًا، فلن تُغيّر شيئًا من المعادلة. لأن الحقائق، مهما غابت اليوم، ستظهر غدًا. والتاريخ، في النهاية، لا يكتبه الخطاب السياسي المرتبك، بل المواقف الثابتة.

شاركها.