هل ستنجح استراتيجية ماكرون الجديدة في إفريقيا؟
كشف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عن الخطوط العريضة لاستراتيجية بلاده الجديدة تجاه إفريقيا، التي تضبط علاقاتها العسكرية والدبلوماسية.
الإستراتيجية أملتها تطورات وتغييرات عميقة تعرفها إفريقيا وخاصة مناطق نفوذها التقليدية أو بما يعرف “فرانس أفريك”، تطورات لا يمكن فصلها عن التغييرات التي تشهدها خريطة القوى الدولية التي انتقلت من القطبية الأحادية إلى تعدد الأقطاب، مع بروز كل من الصين وروسيا كفاعلين رئيسيين في المشهد الدولي.
الرئيس الفرنسي الذي يشرع في جولة إفريقية بداية من يوم الأربعاء تقوده إلى أربع دول إفريقية، الغابون وأنغولا وجمهورية الكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية، تحدّث أول أمس في خطاب ألقاه من قصر “الإليزي”، وضع من خلاله المحددات الجديدة لعلاقة فرنسا بإفريقيا وخاصة بمستعمراتها القديمة التي تشهد رفضا متصاعدا للتواجد الفرنسي، مع ظهور نخب سياسية وعسكرية شابة تحمل أفكارا متشبعة بالعداء لفرنسا الاستعمارية، وترى أن التواجد الفرنسي سيبقيهم في دائرة التبعية والتخلف والفقر وأنهم مجبرون على البحث عن حلفاء جدد.
ودعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الإثنين، إلى التحلي بـ “التواضع” و”المسؤولية”، رافضا “المنافسة” الاستراتيجية التي يفرضها من يستقرون هناك مع “جيوشهم ومرتزقتهم”، في إشارة إلى روسيا ومجموعة “فاغنر” الخاصة.
وأوضح قائلا “يريد الكثيرون دفعنا للدخول في منافسة، أعتبرها مفارقة تاريخية (…) يصل البعض مع جيوشهم ومرتزقتهم إلى هنا وهناك”. وتابع “إنها طريقة فهمنا المريحة للواقع في الماضي، قياس تأثيرنا من خلال عدد عملياتنا العسكرية، أو الاكتفاء بروابط مميزة وحصرية مع قادة، أو اعتبار أن أسواقا اقتصادية هي أسواقنا لأننا كنا هناك من قبل”.
وشدد ماكرون على ضرورة بناء “علاقة جديدة متوازنة ومتبادلة ومسؤولة مع دول القارة الإفريقية”، كما أعلن “قانونا إطارا” من أجل “تنفيذ عمليات إعادة جديدة” لأعمال فنية “للدول الإفريقية التي تطلب ذلك”.
وبخصوص التواجد العسكري بإفريقيا مستقبلا، أوضح ماكرون قائلا: “التحول سيبدأ في الأشهر المقبلة عبر خفض ملموس في عدد قواتنا وحضور أكبر في القواعد (العسكرية) لشركائنا الأفارقة”، مشيرا إلى أن بلاده ستبذل “مزيدا من الجهد على صعيد التدريب والتجهيز”. وشدّد على أنه لن يسمح بأن تصبح فرنسا “كبش الفداء المثالي” في إفريقيا.
ويبدو أن صانع القرار الفرنسي وصل إلى قناعة بأن عهد النفوذ الفرنسي الخالص في المستعمرات السابقة قد ولى، وأن عهدا جديد يكتب في القارة السمراء في ظل حضور فاعلين جدد امتدادا لما تعرفه الخريطة الجيوسياسية من تغييرات.
وفي هذا السياق، قال ماكرون، إن إفريقيا ليست “منطقة نفوذ” ويجب أن ننتقل من “منطق” المساعدة إلى منطق الاستثمار.
وكان الرئيس الفرنسي قد أعلن في شهر نوفمبر الماضي عن إنهاء مهمة “برخان” وتحدّث حينها عن الإعداد لاستراتيجية في إفريقيا تكون جاهزة في غضون ستة أشهر بعد مشاورات باريس مع شركائها في القارة. وأشار وقتها إلى أن “هذا الأمر أساسي وهو إحدى تداعيات ما عشناه في السنوات الأخيرة في كل منطقة الساحل”.
إن تغيير فرنسا لاستراتيجيتها في إفريقيا أملته التغييرات التي تعرفها المنظومة العالمية والخسائر الكبيرة التي منيت بها فرنسا استراتيجيا في الكثير من الملفات إفريقيا ودوليا، حيث أن الحرب في أوكرانيا كشفت عن خريطة القوى الوازنة والمؤثّرة في صنع القرار الدولي التي تتقاسمها حاليا كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين، في حين تغيب فرنسا ومعها أوروبا عن الواجهة التي تحوّلت إلى تابع ينفّذ الإملاءات الأمريكية. ولعل قضية الغواصات النووية مع استراليا تعكس إلى حد كبير تراجع الثقل الفرنسي، كما غاب الدور الفرنسي في الملفات الدولية المؤثرة الأخرى كالقضية الفلسطينية والوضع في سوريا وحتى في ليبيا التي كانت من الدول التي لعبت دورا كبيرا في الأزمتين.
وعلى الصعيد الإفريقي وبالتحديد بالمستعمرات السابقة الفرنسية التي كانت تعتبر إلى وقت ليس بالبعيد بالحديقة الخلفية لفرنسا، لم يعد الوضع كذلك اليوم، حيث خرجت فرنسا من اللعبة من مالي وبوركينافاسو وقبلهما إفريقيا الوسطى، في حين تواجه حربا سرية مفتوحة حول كوت ديفوار مع روسيا ودول أخرى أقل أهمية بالنسبة لفرنسا، كما أن التغييرات التي عرفتها الجزائر خلال السنوات الأخيرة لم تكن في صالح فرنسا التي خسرت أيضا الكثير من مواقعها ووجدت عدة شركات فرنسية نفسها مجبرة على مغادرة البلاد بعد أن فقدت الحضوة التي كانت تتمتع بها سابقا أمام المنافسة الشرسة التي فرضتها عليها شركات أجنبية وحتى محلية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، هل الخطط والاستراتيجية التي وضعتها فرنسا للتكيّف مع الواقع الجديد في إفريقيا، من شأنها إعادة بعث الدور أو الحضور الفرنسي في إفريقيا؟، وهل تملك فرنسا اليوم الوسائل لمواجهة تمدد القوى الجديدة في إفريقيا؟، وهنا نتحدث عن الصين وروسيا وحتى قوى إقليمية أخرى، على غرار تركيا وإيران التي تفرض منافسة قوية على فرنسا اقتصاديا وحتى عسكريا.
يبدو أن التراجع لا يقتصر على فرنسا فقط، وإنما تقريبا كل القوى الأوروبية التي فقدت الكثير من عناصر القوة مع انتقال مراكز القوة من الغرب إلى الشرق.