أمد/ لا شك في أنّ نافذ الرفاعي روائيّ بارع، يُحسن عمله الروائي، ومن خلال ما قرأته له أدرك حجم موهبته الفذّة في صناعة رواية جيدة، وهو من الروائيين القلائل الذين يتأنون في صنعته، ولا يعاني من الفيضان الروائي أو الغزارة في إنتاج الروايات. إنه يتأمل جيدا قبل الكتابة وخلالها، وها هو يتأمل مرحلة ما بعد الكتابة “إنه فكر وقدر…”!

عندما كانت رواية “أحلام القعيد سليم” على وشك الصدور، أرسل إليّ الروائي (أبو العبد) روايته عبر الواتسأب بنسخة إلكترونية، وتحدث معي بمكالمة هاتفية قصيرة فرحاً بهذا المنجز، محادثة فيها الكثير من الودّ والمحبة، معتذرا أنه لم يتحصل بعدُ على نسخ ورقية.

المهمّ في مسألة الرواية متابعتي للنشاط الثقافي حولها، فقد استمعت إلى اللقاء الذي جرى في متحف محمود درويش، وقدّم فيه الرواية والروائي الناقد والكاتب الصديق تحسين يقين، برزت ثنائية الاجتماعي والسياسي في ذلك اللقاء، ويبدو أن الرفاعي قتل روايته عندما تحدث عنها أنها رواية اجتماعية، لا سياسية، هذه الثنائية التي رأيتها خلال اللقاء الذي عقدته ندوة اليوم السابع ليعيد الرفاعي إرباك المشهد مرة أخرى.

من المفترض ألا يتحدث الكاتب عما كتبه إلا بكيفية كتابته لما كتب، لا أن يفسّر العمل ويشرحه، وفي هذه المناسبة أعيد التذكير بمقالة كتبتها منذ سنوات (30 آب 2022) بعنوان “لماذا يجب أن يصمت الكاتب؟” وفي حالة الرفاعي وروايته هذه كان حريا به أن يصمت صمتاً مطبقاً، وإضافة على ما كتبته في تلك المقالة، وكحالة مشخصة أجدد طرح السؤال بصيغة خاصّة ومحصورة بالكاتب: “لماذا على نافذ الرفاعي أن يصمت؟”.

لقد صدرت الرواية في أجواء المقتلة العظيمة في غزة والحرب الشرسة على الشعب الفلسطيني ومقاومته، وبرزت إلى النور في ظرف بالغ التعقيد، حيث فرض الحلول السياسية المصنّعة غربيا وأمريكيا لإجبار المقاومة على الاستسلام، من المؤكد أنها ليست هي ظروف كتابة الرواية، ربما كتبها صاحبها في الحرب (آخر سنتين).

هذه ظروف تؤثر كثيرا في المتلقي، وتجبره على سحب العمل الأدبي إلى آفاق غير متوقعة، كما حدث مع كثيرين، وصار القارئ المغموس بكل كيانه العقلي والعاطفي في أحداث غزة وتداعياتها المؤلمة عسكريا وسياسيا يفعّل “تقنية الإسقاط” على ما يقرأ من أدب، لأنه يريد أن يوجد علاقة مباشرة بين هذا الأدب وبين واقعه، طمعاً منه في “إسكات بلابل نفسه” التي تعصف بها السياسة وتؤرجها ذات اليمين وذات الشمال، رأى هذا القارئ في الرواية أملاً ما، وإن كاد “يفر من البنان”، ورأى التحدى في إنسان مكسور مشلول قعيد، وحده يتسلق الجميزة العالية، يصل إلى القمة ثم يهوي، هل مات أم لم يمت؟ هذه قضية أخرى، لم يرد القارئ المتشبث بالأمل أن يموت سليم، إنه يتوقع أن يقوم ثانية ويكمل مشواره، ليس الأمر واقعياً، إنما هو نفسيّ، الواقعي هو “احتمالية الموت” لكن لا نريد أن نكون واقعيين. أما أنا وعلى نحو شخصي بناء على الظروف المصاحبة للصدور رأيت في نهايتها رمزية عالية لما حدث في غزة يوم السابع من أكتوبر عام 2023، فقد تسلق القعيد الفلسطيني السليم صاحب العقل القمة بتلك الأحداث، لكنه بعد أن وصل القمة هوى أرضاً، هل هزم؟ هل مات؟ لا إجابة قاطعة؛ سواء في الرواية أو على أرض الواقع؛ فخسارة معركة لا يعني الهزيمة النهائية و”النصر المطلق” للأعداء.

هذه الفكرة هي التي شغلت القراء والكتاب، كثير منهم لم يتعامل مع سليم إلا أنه “ذو عاهة جبار” وقادر، وعظيم كالفلسطيني المحاصر، المشلول في الواقع لأنه يقرأ وعقله معلق ومشغول بغزة ومقاومتها، لقد رأى هؤلاء في التفسير الواقعي للرواية البعيد عن أفق السياسة على هذا النحو أن الرواية لا تلبي طموحه النفسي، وما يبحث عنه، فأنكر الواقعية والواقع، وظل مشغولا بالبحث عن أمل. لعلهم رأوا في العقل الباطن أن موت سليم بعد الوقوع عن الشجرة التسليم بخسارة المعركة في غزة، وكأن هذا الحدث الختامي أصبح معادلا موضوعيا للهزيمة السياسية.

من حق القراء أن يبحثوا عما يطمئنهم في ما يقرؤون من أدب، ويحق لهم أن يروا في الأدب ضالتهم من خلال هذا التكيف العاطفي مع ما يقرؤون، فالأدب لا يقرأ من أجل المتعة فقط، بل من أجل الاستشفاء أيضاً، الاستشفاء من أمراض العفن والخور والهزيمة، وهي أمراض فكرية وروحية، ولكن لتحقيق هذه المسألة لتصحّ نفسيا وتكون مقبولة كأفق من آفاق التلقي، لا بد من أن يكون العمل الأدبي مؤهلاً لذلك، فليس الأمر اعتباطياً يسير دون محددات وقوانين تحكمه وتوجهه، وهنا لا بد من مساءلة ذلك العمل، ونبحث بموضوعية وتجرّد تام عن مدى انفلاته من قيد الكلمات المكتوبة والأفكار السطحية التي تطفو على سطح العقل الواعي، بمعنى آخر: هل كان بمقدور هذا العمل أحلام القعيد سليم أن يتفلت من معناه الظاهر إلى معنى آخر، ليستقلّ طريقا مغايراً حتى ولو كان بعيدا عن أفكار الكاتب ومقاصده؟

من يتأمل طبيعة الصنعة الروائية يرى أن العمل الروائي الجيد متعدد القراءات، وذو طبقات مختلف بعضها عن بعض، وهذه تبدو في كل رواية مشغولة بحرفية كاتب خبير، ومنها هذه الرواية، ولولا تدخلات “نافذ الرفاعي” القاتلة للرواية التي يصرّ على حشرها في تابوت “الحياة الاجتماعية الواقعية” ويجعلها رواية مُقْعَدة على كرسي متحرك يوجهها هو بنفسه، لولا ذلك لكانت الرواية تحتمل أن تكون رواية اجتماعية، بالقدر نفسه التي تكون فيه رواية رمزية فلسطينيا وعربيا وحتى عالمياً، بمعنى أنها رواية سياسية بامتياز كما وصفها الناقد تحسين يقين.

لقد كشفت الرواية عن موهبة الكاتب الحقيقية في صناعة رواية قادرة على التفلت من أسر أفكارها المباشرة، لكنّ إصراره على أن تظل تدور على كرسي متحرك هو هدف سياسي متوقع لدى الكاتب، فلعله لا يريد أن تكون “رواية مقاومة سياسية”؛ لأن ذلك يضعه أمام المساءلة “الحزبية” فكيف يمجّد المقاومة في غزة وهو ضد ما قامت به؟

ذكرت في مقالي السابق المشار إليه أعلاه أن الكاتب قد يمارس المراوغة حسب الظروف، فلو كان الرفاعي في بلد آخر، كتركيا أو في قطر أو في أيّ بلد أوروبي مناصر للشعب الفلسطيني وقضيته سيكون سعيدا بهذا الأفق السياسي الذي ستقرأ فيه روايته، أما وهو أحد أبناء سلطة أوسلو، وكان أحد موظفي وزارة الخارجية فيها، وسلّمه المستوى الأمني والمستوى السياسي في منظمة التحرير في فترة من الزمن الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، كل ذلك يجعله يصر على أن تبتعد الرواية عن أي معنى سياسيّ يعارض رأي سلطة أوسلو الواقفة بكل قوة إلى جانب “تصفية المقاومة وهزيمتها”، وبذلك تنأى الرواية عن أن تخدم التوجه العام للناس الباحثة عن بقعة ضوء في هذه العتمة الحالكة؛ وهي ضد أوسلو وسلطة أوسلو وترفض تصفية المقاومة، إن الرفاعي بهذا يطفئ بنفخة من فيه شعلة هذه الرواية التي تريد الانفكاك من سيطرة كاتبها عليها بعد النشر، لكنه يصر على سجنها في قوالب محددة ليأسر معناها ويسلب منها قدرتها على المقاومة، وهو بهذا الموقف يكون قد انحاز إلى “السلطة القائمة” ضد القراء، ليحارب آمالهم ويقضي على طموحاتهم، وفي هذا مساءلة كبرى لموقفه كمثقف غير المنحاز إلى العدالة المطلقة والحق والخير والجمال.

هل يحدث وأن تتفلت الرواية من هذا الأسر؟ سيحدث ذلك فقط لو أخذ كاتبها بنصيحة صديقه “صافي صافي”، لكنْ هذه النصيحة تجعل الرواية متمردة ومولودا مشاكساً يجلب وجع الرأس، وهذا ما لا يحبّذه الرفاعي، ولا يريد أن تتحول هذه الرواية إلى “لعنة على كاتبها”، فمن الأسلم له أن تظل قعيدة مقعدة سليمة من الأثر السياسي، وعلى ما يبدو فإن الروائي نافذ الرفاعي بين خيارين أحلاهما مر، بل شديد المرارة؛ بين أن يقضي على روايته، أو بين أن تقضي عليه روايته.

شاركها.