هل بإمكاننا التأسيسلثورة ثقافية تصحح التاريخ..باشراكنا من جديد في العطاء الحضاري للعالم..؟!
أمد/ ليس هناك نقد لأنه ليس هناك أدب ” هكذا يقال ..الصحافة خطفت خيرة النقاد وحولتهم إلى صحفيين ” قيل أيضا ، لكن أليست علاقة الأدب بالنقد، علاقة الندية و التكافؤ والأسرة الواحدة..٨خ!؟ ثم ألا يجوز القول بأن ” حضور ” أحدهما مرهون بحضور أو غياب الآخر،و إن كان غياب “الأدب” يكاد يكون أمرا مستحيلا..!؟
ثم أولا و أخيرا : ألم يحن الوقت بعد،لصياغة عطاء نوعي و مستقل في حقل النقد الأدبي ينأى عن ” العفوية ” التي تفرض الإنطباعات الجزئية دون استخلاص المعيار!؟
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا ما قيل أن ” التقصير ” في النقد العربي الحديث ذو دلالة سوسيولوجية تتجاوز أسوار المصطلح الجمالي للنقد إلى أبعاد اكثر شمولا يمكن ايجازها في الإشارة التالية :
تتجلى أبرز ملامح التقصير في مجمل الحركة النقدية العربية الحديثة في غياب ” المناهج ” التي تضبط ايقاع هذه الحركة مما يعني التقصير في إكتشاف قوانين التطور الأدبي العام في بلادنا، أي اكتشاف المسار العام للحركة الأدبية العربية الحديثة من ناحية ، و القوانين المضمرة في التجربة الأدبية النوعية كالرواية والمسرح و القصيدة و القصة القصيرة من ناحية أخرى.وقد يظل هذا التقصير قائما ما لم يرافق هذا الأكتشاف المزدوج ” نقد النقد ” و هذه مسألة أخرى تدعونا بإلحاح إلى وضع “إستراتيجية” نقدية تضع في الإعتبار خصوصية الظاهرة الأدبية مع الإفادة من مكتسبات التراث النقدي الذي مازال في حاجة إلى الدرس والإضاءة (1) ” لا سيما أن هذا النقد ( نقد النقد ) هو نقد للذات كما أنه نقد للأخر،وذلك بقدر ما يتيح طُرق بعض القضايا المحورية ، و بلورة المنهجيات المناسبة للمقاربات التي تفترضها.
و من هنا فالنقد مدعوّ الى ” الأخذ بمنهجية محددة في البحث وإعتماد طريقة موضوعية في معالجة المادة الأدبية،وإجتراح المصطلاحات والمفاهيم الملائمة لها و السعي إلى غايات مستقلة بها(2) ” مما يعني أن النقادمدعوونإلى الإستفادة من كافة مناهج النقد الغربية ،ولكن دون نقلها نقلا أعمى لا يراعي خصوصيات النص الإبداعي العربي،ناهيك و أن التطبيقات البنيوية و التفكيكية و غيرها موغلة في الغموض و التعقيد مما حدا ببعض المبدعين للقول بأنهم لم يستفيدوا مطلقا من النقد ولم يسهم في تطويرهم كما أعلن ذلك مرارا الراحل نزار قباني.
ضمن هذا السياق علينا الإعتماد على خبرنتنا الخاصة وتجربتنا النوعية التي تستفيد من المنهج الحديث بالإضافة إليه والحذف منه و التعديل فيه بما من شأنه أن يرمّم الجسور بين العمل الأدبي المعاصر والنقد من ناحية،و يردم الهوة بين القارئ والناقد من ناحية أخرى..
كذلك يغيب عن نقدنا الحديث تقليد البحث عن المواهب الجديدة و الإحتفال بها فقط عندما تتحول إلى مؤسسات،أي بعد أن تكتمل و لا تعود هي أو القراء إلى النقد،هذا في الوقت الذي بتناسى فيه النقاد.
إني أتكلم هنا عن ” النقاد الأكادميين ” بالمعني المدرسي للإصطلاح،لا عن أشباهالنقاد ممن يعملون مديري دعاية للأدباء والفنانيين أن الموهبة الحقيقية الجديدة تعني بالأساس أن ثمة نبضا متميزا جديدا في الثقافة و المجتمع، والإحتفال بها ليس تطوعا أو منّة و لا حتى ” واجبا ” بالمعنى الأخلاقي و إنما هو اكتشافا لظاهرة ثقافية اجتماعية لمن يريد أن يبني رؤيا صحيحة للثقافة والمجتمع الذي يعيش فيه.اي لمن يريد أن يكون ناقدا ذا نهج. أقول هذا لأن ساحتنا النقدية بخاصة غدت مرتعا ل(تكتلات) غير بريئة،ما فتئت تصنع من بعض الأسماء المشهورة( ….) في الشعر و القصة و الرواية أصناما تعبد وتمجّد،وكأن الإنجاز الإبداعي العربي في هذه الفنون توقّف عندهم (!).
وهذا يعني عدم الإهتمام بالأسماء و المواهب الجديدة في الفنون كافة ولسوف تظل معظم الكتابات النقدية هنا و هناككتابات فوقية على هامش النص الإبداعي مالم تتجاوز هذه السلبيات نحو أفق حركة نقدية واعية وواعدة..
ما أريد أن أقول ؟
أردت الإشارة إلى أن التعالي على أية ظاهرة أدبيةاجتماعية كالتجاهل المقصود لهذا الكاتب او ذاك لمجرد أننا نختلف معه فكريا،أو لأن أدبه لم يحقق مستوى جماليا راقيا هو في الحقيقة إحتقار لعديد القراء،أكثر مما هو إحتقار للكاتب نفسه،في حين نولي وجهنا عنه بدعوى أنه تحت مستوى النقد (…).
ليست هناك ظاهرة أدبية تحت أو فوق مستوى النقد، طالما أنها “ظاهرة” وطالما اننا ندعي الإهتمام بالمتلقي. وطالما ندّعي أننا أصلا نقاد أدب مهمتهم استكمال دورة الكتابة والقراء بالنقد. وأخيرا طالما أننا “نقاد نبحث عن مناهج تسترشد بالمدلول العام لحركتنا الأدبية في خط متواز لتطورنا الإجتماعيالثقافي وفي خط متقاطع مع القوانين النوعية لفنوننا الأدبية”(3)
استتباعات :
إن ما يفضي إليه الرصد المقتضب للخطاب النقدي الحديث استتباعا لما تقدّم هو أن النص النقدي يتموقع في خانة التقصيرالتي يعسر الخروج منها بغير السعي الحثيث إلى أن يكون همزة وصل بين نهضتنا والحضارة الحديثة في العالم، وهذا يقتضي منه “النضال” بقدر ما يستطيع في سبيل المشاركة الفعلية في نبض العالم بالإنتاج والعطاء،لا بالإستهلاك أو النقل لاسيما وأن الثقافة لم تنته بعد بانتهاء الحضارة الغربية أو انقطاع العطاء الغربي للحضارة بتعبير أدق .
على أية حال،بقليل من التفاؤل وبمنآى كذلك عن التعسفية أو الإسقاطية الذاتية أقول : إن النقد العربي الحديث قد حقّق بعض النجاحات سوى بتحويل مجموع اجتهاداته إلى “حركة من تيارات” لا مجرد التماعات فردية ، أو بإقترابه الجسور من جوهر التجربة الأدبية المحلية،أو بإلتصاقه الحميم بالطبيعة الخاصة للأدب. و مع ذلك فليست النياتعلى طيبتهاهي المقياس أو الحكم في مثل هذه المسألة،بل الفعالية الإجرائية العملية في مقاربة النصوص الأدبية ،وهي تتجلى في مدى اتساق المنهج البحثي وملاءمته للعمل الأدبي المتناول،ومدى إقناعه بتماسك طرحه وخصوبة نتائجه .. و تظل المفارقة في حالة توالد مع الأصوات النقدية الجديدة التي تنحت دربها في الصخر بالأظافر، حتى أنها ” تؤسس لتحويل نقدنا العربي الحديث الى حركة قومية من ناحية وتخصصات نوعية من ناحية أخرى..الأمر الذي يشير ببطء شديد إلى إحتمالات نظرية أكثر شمولا في المدى المنظور (4).
على سبيل الخاتمة :
إن العمل الفني الجدير بصفة الإبداع هو ذاك الذي يصوغ جدلية العلاقة بين الماضي و الحاضر والمستقبل في حوار مجلجل ومساءلة عميقة.كما أن النقد المنهجي الجدير بصفة الإبداع هو أيضا ذاك الذي يعتقد في جدلية التطور التاريخي و ينآى عن التضخم النرجسي و الأحكام المسقطة ليستشرف المستقبل بعمق وثبات..
و أخيرا،فإن التقصير في النقد العربي الحديث ليس خاصا بالنقاد كأفراد، بل كحركة نقدية عربية معاصرة شهدت إشراقات خلاقة على درب الإبداع،منذ فجر النهضة إلى مغيبها. وكل ما أقصده هنا،أننا غدونا نعيش في ظل متغيرات كونية كاسحة تعبق برائحة التحديات،إذ أننا على هذه الأرض في مفرق الطرق بين الإنسحاق خارج التاريخ أو الولادة الجديد في ” ثورة ثقافية ” تصحح التاريخ باشراكنا من جديد في العطاء الحضاري للعالم .وما على النقد الأدبي كفكر و فن وعلمالإ أن يكون في مستوى التحدي وفي طليعة هذهالثورة الثقافية الشاملةكي يسجّل بحضوره الفعال علامة مضيئة في طريق التحول ومنعطف الإنتقال..
الهوامش :
1 زهرة الجلاصي: أنظر مقالها المنشور بمجلة الآداب البيروتية العدد 12/11 ص 100
2 سامي سويدان المرجع السابق ص 54 بتصرف طفيف
3 الدكتور الراحل غالي شكري عن كتابه : سوسيولوجيا النقد العربي الحديث ص257.
4 د. غالي شكري ذُكر سابقا ص223 بتصرف