هذه جريمة فرنسا.. لا تقادم ولا نسيان
نعود بمناسبة الذكرى الـ75 لمجازر الثامن ماي 1945، رفقة مجموعة من الباحثين والمؤرخين للبحث، في تأثير هذه المجازر التي راح ضحيتها أكثر من 45 ألف شهيد من الجزائريين العزل، وآلاف المساجين، وكيف انعكس هذا القمع والتشتيت والتقتيل في لم شمل الشعب الجزائري حول رأي واحد وموحد، وهو ضرورة الكفاح المسلح ومجابهة الاستعمار الفرنسي بالقوة من خلال “انعكاسات مجازر 8 ماي على الحركة الوطنية”.
اعتبر الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفلاقــة من كلية الآدابواللُّغات،جامعة عنّابة، أن الإجماع يقع على أن مجازر8 ماي 1945 زلزلت الشعب الجزائري وأيقظته، وبيّنت له بوضوح أن الوسائل السياسية والسلمية غير مجدية، وليست نافعة.
8 ماي.. المخاض العسير السابق لثورة أول نوفمبر
وقال في تصريح لـ “”،إن الدارسين يجمعون على أن تلك المذابح الفظيعة شكَّـلت نقطة تحول حاسم في تاريخ الحركة الوطنية الجزائريةالتي اقتنعت، حسبه، أكثر من أي وقت مضى بأنه مما لا يُخامره أدنى شك أن مشروع طريق استقلال الجزائر لا يُمكن أن يتحقق إلا عن طريق الكفاح المسلح؛ ما جعلها تتخلى عن طرائق الحصول على الحرية بالوسائل السياسية التي كانت تتبناها بعض الأحزاب”والتي يبدو أنها كانت مقتنعة بأن الاستقلال قد يتحقق من خلال الوسائل السلمية، وقد وجدنا دراسةالمناضل(محمد قنانش) الموسومة بــــ:المسيرة الوطنية وأحداث8 ماي1945، ترجع جذور الثورة إلى ما قبل تلك المجازر؛ حيث ذهب في هذه الدراسة إلى أن أول نوفمبر1954 وُلد عام1936، وبلغ سن الرشد عام1945، وأصبح سيد نفسه عام1954”.
وأوضح بوفلاقة أن ما وقع في8 ماي شكل محطة حاسمة في تاريخ الكفاح الجزائري ضد الوجود الاستعماري الفرنسي، قائلا: “لا يختلف اثنان على أنه يمثل المخاض العسير السابق لاندلاع ثورة نوفمبر1954 التي لا يمكن فصلها عن هذا اليوم الفظيع؛ الذي شكل ميلاد الحالة الثورية السابقة لانفجار ثورة التحرير المظفرة”، مشيرا إلى أن هذا الأمر قد اتضح من خلال الاستجابة الشعبية الكبيرة لنداء أول نوفمبر1954 الصادر عن مجموعة غير معلنة الأسماء، وعن جبهة التحرير الوطني التي لم يسبق أن عرفتها الساحة السياسية، وقد تخلَّت مجموعات كبيرة من المناضلين في صفوف الحركات السياسيةالقائمة يومئذعن ارتباطاتهم الحزبية، وانضم العديد من المناضلين إلى صفوف الحركة التي دعت إلى العمل المسلح دون الاستفسار عن التيار السياسي أو القوى الاجتماعية، أو الشخصيات الحزبية التي تقف وراء هذا التنظيم.
وأكد بوفلاقة أن مجازر 8 ماي1945 شكلت، بالنسبة إلى جلّ أبناء الجيل الذي فجَّر ثورة نوفمبر العظيمة وخاض غمارها، نقطة تحوّل شامل على شتى الأصعدة “ونستشهد في هذا المضمار بما ذكره الرئيس الجزائري السابق والمجاهد الشاذلي بن جديد في مذكراته، حيث يقول: شكّلت حوادث8ماي1945، بالنسبة إليّ وإلى أبناء جيلي، تحوّلاً هاماً على أكثر من صعيد. وبدأت أدرك، تحت تأثير الوالد، أن الأمور لن تسير في الجزائر، فيما هو قادم من أيام، كما في السابق. ووجدت نفسي أنخرط في العمل السياسي بعد أن كنت أعتبر السياسة حكراً على الكبار، وكنت الوحيد من بين أترابي الذي يُسمح له بالجلوس مع الكبار، وكانوا يسمونني الأمين، كان الكبار، ومنهم والدي، يتحدثون عن حل: أحباب البيان والحرية، وعن الأحكام العرفية وعن اعتقال فرحات عباس، ونفي مصالي الحاج، والشيخ البشير الإبراهيمي. وبعد عام بالضبط من تلك الحوادث، أنشأ فرحات عباس الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، وحاول هذا الحزب استخلاص الدروس من تلك الحوادث الأليمة، وأصبح يطرح شعارات أكثر واقعية، تُطالب بالإصلاح وبناء دولة قوية وعادلة تحت راية الديمقراطية…”.
ويعتقد الدكتور بوفلاقة أن الأسباب الحقيقية لمجازر 8 ماي ترجع إلى الأنشطة التي بدأت خلال عام1943، وانتهت بهذه المجازر “فالفترة من1943 إلى1945 عرفت منعرجاً حاسماً وكبيراً فتح الطرق للنهوض بالثورة التحريرية المظفرة، واسترجاع السيادة الوطنية”،مؤكدا أن دراسات كثيرة توسعت في الوقائع التي سبقت المجازر، ومن بين الأحداث التي سبقت مجازر8 ماي1945، وتمَّ التركيز عليها بشكل كبيرفي أبحاث عديدة.
تجمع “أحباب البيان والحرية” سبب مباشر لمجازر 8 ماي
يقول الدكتور رابح لونيسي من جامعة وهران 2 إنه لا يمكن لنا فهم مجازر08 ماي1945 فقط في إطار طبيعة الاستعمار الأوروبي الحديث، ومنه الفرنسي المبني على العنف والإجرام والعنصرية واحتقار الإنسان غير الأوروبي، بل أيضا تفسر بسياسة استعمارية مبنية على مبدأ “فرق تسد” بين أبناء الشعب الجزائري كي لا يتوحدوا، ويلتقوا على كلمة واحدة لطرد هذا الاستعمار. وقال في تصريح لـ””،إنه حدث هلع لدى السلطات الاستعمارية بعد اجتماع مختلف قوى الحركة الوطنية منذ 1943 في “أحباب البيان والحرية” الذي ضم كلا من حزب الشعب الجزائري بقيادة مصالي الحاج وجماعة فرحات عباس، وكذلك جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تحت قيادة الشيخ البشير الإبراهيمي، ووصل عدد المنخرطين، حسبه، في هذا التنظيم الجديد إلى أكثر من 600 ألف منخرط حسب ما أورده فرحات عباس في كتابه “ليل الاستعمار”:”فكان على فرنسا الاستعمارية أن تخططللقضاء على هذه الحركية التي جمعت كل أطياف الشعب الجزائري، خاصة أنها قد خرجت من الحرب العالمية الثانية ضعيفة ومهزوزة، فما عليها إلا استفزاز الجزائريين بداية من بداية شهر ماي1945 بمقتل وقمع مظاهرة في العاصمة بمناسبة الاحتفال بعيد العمال، ثم جاءت مظاهرات سطيف التي كانت سلمية ومعبرة عن انتصار الحلفاء على النازية، لكن وقعت استفزازات أدت إلى مجازر رهيبة في كل القطر الجزائري، خاصة في سطيف وقالمة وخراطة”.
وأكد لونيسي أن الهدف منها كان ضرب تلك الوحدة التي تجسدت في تنظيم “أحباب البيان والحرية” من جهة، وإرهاب الشعب الجزائري كي لا يفكر في أي ثورة من أجل حريته واسترجاع سيادته، مستغلا الظروف الدولية الجديدة التي خلفتها الحرب العالمية الثانية”خاصة أن فرنسا الاستعمارية عرفت واستفادت من تجاربها التاريخية في الجزائر، بأن أي ضعف عندها يستغله الجزائريون لطردها كما وقع مثلا مع ثورة المقراني والحداد عام1871 التي جاءت بعد هزيمة فرنسا أمام ألمانيا بقياد بسمارك في 1870″.
وإن كان لمجازر08 ما ي1945 تأثير إيجابي على التيار الاستقلالي المتمثل في حزب الشعب ثم الحركة من أجل الانتصار للحريات الديمقراطية، يقول لونيسي، إلا أنها تركت تأثيرات سلبية ووخيمة على التيارات الأخرى كجمعية العلماء وجماعة فرحات عباس التي أسست حزب”الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري”، وكذلك على الحزب الشيوعي الجزائري، مصرحا “فلا يمكن لنا تفسير تردد هذه التيارات الثلاثة اتجاه الثورة التحريرية المسلحة في شهورها الأولى واتخاذها موقفا مشككا منها بعدم معرفة من وراء تلك الأحداث التي وقعت ليلة أول نوفمبر1954، بل يفسر هذا التشكيك والتردد أيضا بما وقع في 08ماي 1945، حيث منذ تلك الفترة أصبح الكثير يرى في كل محاولة ثورية أو حركة عنيفة بأن وراءها السلطات الاستعمارية وكمحاولة استفزاز وجر الجزائريين إلى العنف، كي تجد هذه السلطات المبررات والذرائع لضربهم بقوة كما وقع في 08ماي 1945”.
فهذا ما نجده، حسبه، في مواقف كل هذه التيارات الثلاثة في بدايات الثورة التحريرية، خاصة أن هناك فكرة انتشرت بقوة كانت تقول بأن سياسات الاستفزاز هوأسلوب استعماري منذ القرن19، حيث كانت السلطات الاستعمارية تستفز عدة مرات أعراش وقبائل جزائرية لتجرها إلى العنف كي يجد الاستعماريون في ذلك ذريعة للاستيلاء على أراضيها وقهرها وتصفيتها، لكن مجازر08ماي 1945 كان لها تأثير أكبر في انتشار هذه الفكرة لدى مختلف تيارات الحركة الوطنية، سواء كانت جماعة فرحات عباس أو جمعية العلماء أو الحزب الشيوعي، ونستثني من ذلك التيار الاستقلالي المتمثل في حزب الشعب ثم الحركة من أجل الانتصار للحريات الديمقراطية الذي كان يرى الترويج لتلك الفكرة هي تثبيط لهمم الشعب الجزائري.
8 ماي..يوم اقتنع الشعب بعدم جدوى النضال السياسي
من جهته، قال الأستاذ توفيق صالحي من جامعة سكيكدة، إن زعماء الحركة الوطنية كانوا يحضرون للاحتفال بنهاية الحرب العالمية الثانية، عن طريق تنظيم مظاهرات تكون وسيلة ضغط على السلطات الاستعمارية للاستجابة لمطالب الحركة الوطنية الملتفة حول جبهة أحباب البيان والحرية (19441945) بقيادة فرحات عباس، وعمت المظاهرات، حسبه، غالبية المدن الجزائرية في أول ماي 1945، ثم في الثامن ماي 1945، وعبر الجزائريون عن طموحاتهم في التحرر وطالبوا باستقلال بلادهم.
وذكر صالحي، في تصريحه، أن رد السلطات الاستعمارية على المظاهرات السلمية التي نظمها الجزائريون كان يوم الثلاثاء 8 ماي 1945 بقالمة ونواحيها، وسطيف وخراطة وغيرها من المدن، هو ارتكاب مجازر 8 ماي 1945، وذلك بأسلوب القمع الشامل والتقتيل الجماعي واستعملت في هذه المجازر، حسبه، القوات البرية والجوية والبحرية، ودمروا القرىوالمداشر والدواوير، واستمر التقتيل الممارس ضد الجزائريين لأيام أخرى.
وأوضح صالحي أن مفاهيم النضال الثوري لدى الشباب والمناضلين في الجزائر قد تطورت مع شراسة مظاهرات 8 ماي1945، فأصبحوا مقتنعين بضرورة الكفاح والعمل المسلح لأن النضال السياسي أثبت عقمه مع الإدارة الفرنسية “فمع أحداث 8 ماي 1945 التي كان لها الأثر البارز في بلورة الفكر الثوري، حيث أبانت فرنسا عن نيتها في عدم التخلي عن الجزائر ونقض عهودها المقدمة خلال الحرب العالمية الثانية. واقتنع أعضاء الحركة الوطنية بحقيقة فرنسا، التي يستحيل معها تحقيق ولو مطلب واحد بالطرق السلمية”.
وعليه، فقد تأكد الجزائريون، يضيف صالحي، بعد أن فقدوا ثقتهم في إدارة المحتل بأن الذي يرتكب مثل هكذا مجازر لاتهمه لغة التحاور، فتميزت هذه الفترة بعزوف شبه تام عن العمل السياسي.وحسب صالحي “فهكذا كانت مجازر 8 ماي 1945 نقطة تحول بالنسبة لعموم الشعب الجزائري بصفة عامة ولدى المناضلين الجزائريين بصفة خاصة، أين أخذوا على عاتقهم مسؤولية واجب حماية الوطن واسترجاعه بلغة السيف والدم، باعتبارها مهمة قدسية”.
واسترسل “كان حزب الشعب الجزائري يعاني أعضاؤه من السجن والتضييق والإبعاد، ولكنه أدرك ضرورة اقتحام تلك المواقع بعد الحرب العالمية الثانية، وحينئذ بدأ في تأسيس المنظمات الجماهيرية واحتواء المنظمات القائمة، وأحدث سلوكا تنافسيا مع جمعية العلماء التي كانت قريبة من تلك المنظمات والمواقع”.
واختتم صالحي كلامه “تعتبر مجازر8 ماي 1945 نقطة تحول حاسمة في بلورة الوعي الوطني لدى الجماهير الشعبية بمختلف فئاتها، فكانت الشرارة التي أضاءت طريق الكفاح المسلح. فحوادث 8 ماي لم تؤكد على مطلب الاستقلال فقط، بل تجاوزت ذلك نحو المضي في السبل المؤدية إليه وبالوسائل المناسبة لتحقيقه. كما أن فكرة الكفاح المسلح قد تبلورت وبدأ العمل على تجسيدها وتنظيم وسائلها من أجل انتزاع الحرية، فظهرتعناصرشابة جديدة ضمن المنظمة الخاصة أشد حماسا لمواجهة المستعمر باللغة التي يفهمها الاستعمار الفرنسي، لغة الكفاح المسلح”.