نقاش في التطبيع الاعلامي مع الاحتلال

أمد/ يحمل التطبيع في طياته المرجعية خلفيتين لا تخرجا عن الحالة “الطبيعية” في سياقها العام، تفترض الأولى عودة العلاقة إلى ما كانت عليه قبل انقطاعها بسبب ظروف معينة، أما الثانية تتجلى في اصباغ صفة الطبيعية على علاقات مستحدثة لم تكن قائمة من قبل، أحدثتها عوامل التطور السياسية المتعارف عليها، وفي تلكا الخلفيتين لا يُستشعر النفور وعدم القبول من اصباغ حالة الطبيعية سواء على ما كان قائما قبل الانقطاع أو تلك العلاقات المستحدثة.
اما محاولة البعض إضفاء صفة الطبيعية على العلاقة مع الاحتلال من خلال تطبيع العلاقات المختلفة معه، فلا يمكن استنباته من خلفية التطبيع مع العلاقات المستحدثة لأنه يفترض بها أنها حالة طبيعية، وإنما منبتها هنا الشذوذ عن الحالة الطبيعية، مما ألصق بكلمة التطبيع في اللسان العربي صفة النفور لارتباطها القسري بالاحتلال، لذا ليس من الغريب أن السواد الأعظم من الفلسطينيين والعرب ينفرون من التطبيع مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين وبعض المناطق العربية الأخرى، على خلاف ما يحاول تصويره الاعلام “الإسرائيلي” ومعه الاعلام الرسمي للكيانات العربية المطبعة مع الاحتلال، ومن لحق بركبهم من النخب اللاهثة حول الأضواء والغارقة بمصالحها الشخصية والتي لا يستبعد طورتها في وحل العمالة مع الاحتلال، وهنا تكمن خطورة التطبيع الإعلامي مع المحتل، الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال قبوله ككيان طبيعي مستحدث نتيجة لظروف طبيعية أيضا.
لم يكن التطبيع الإعلامي مع الاحتلال وليد اللحظة، فقد سبقه أشكال ومستويات أخرى من التطبيع السياسي والاقتصادي لكنها بقيت بمعظمها على مستوى النظام الرسمي للدول المطبعة، حتى بدأت بعض المنصات الإعلامية العربية الاقتباس من اعلام الاحتلال والاستناد على بعض التصريحات لقياداته الرسمية وغيرها، ثم ومع انطلاق الفضائيات العربية الإخبارية نهاية القرن الماضي التي حظيت بجمهور عربي كبير كونها قدمت معالجة إعلامية مختلفة على ما هو معتاد بالقنوات المحلية التابعة للنظم الإعلامية العربية في حينه، أخذ التطبيع الإعلامي مع الاحتلال منحى أكثر خطورة من خلال ظهور مسؤولين بكيان الاحتلال على شاشة تلك الفضائيات كالناطقين بالعربية باسم كيان الاحتلال، وغيرهم من الباحثين والإعلاميين “الإسرائيليين” للتعليق على الأحداث والأخبار ذات العلاقة بالصراع مع الاحتلال، لينتقل الأمر بعد ذلك للتناظر الإعلامي بين ضيوف فلسطينيين وعرب مع آخرين من الكيان الاحتلالي، ولم يقتصر الأمر على ذلك المستوى فقط بل مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي عمد الاحتلال على تدشين العديد من المنصات الحديثة باللغة العربية للتواصل مع الجمهور العربي لا سيما بعض النخب الإعلامية والثقافية الخليجية على وجه التحديد الذين ناصبوا العداء للشعب الفلسطيني وقضيته على خلاف وجهة شعوبهم وموقفهم من العدو “الإسرائيلي”، متعللين بحجج ومبررات غير حقيقية تهدف بذات الوقت لإثارة النعرات بين الشعب الفلسطيني ومحيطه الشعبي العربي من خلال “شيطنة” الفلسطيني وتكذيب روايته العادلة، مما دفع ببعض النخب العربية والفلسطينية للأسف لقبول الظهور الإعلامي على شاشات التلفزيون الرسمي لكيان الاحتلال الناطق بالعربية، للتعليق على الأحداث الجارية بالمنطقة، كان آخرهم للأسف باحث وأكاديمي من قطاع غزة تكرر ظهوره قبل ذلك، لكن هذه المرة في ظل حرب الإبادة التي ما زال يشنها الاحتلال على قطاع غزة ومخيمات الضفة الغربية.
لأن الحديث حول الفضائيات الإعلامية المطبعة مع الاحتلال حظي بنصيب كبير من النقاش، خلص بشكل أو بآخر إلى أن تلك المنصات تتبع بالنهاية لأنظمة مطبعة مع الاحتلال على الرغم من عدم إعلانها لذلك الأمر مثل دولتي قطر والسعودية، لذا فإن التركيز سينصب بهذا المقال على التطبيع الإعلامي مع الاحتلال القائم على قبول بعض النخب الفلسطينية والعربية لمناظرة ضيوف صهاينة على القنوات العربية والدولية الناطقة باللغة العربية، وكذلك ظهور بعضهم على شاشات وإذاعات الإعلام التابعة لكيان الاحتلال، ومناقشة مبرراتهم والرد عليها.
يبرر التيار المطبع إعلاميا مع الاحتلال بشكليه السابقين، بأنه لم يعد من المجدي في ظل زمن الإعلام المفتوح مقاطعة الاحتلال إعلاميا، خاصة أن الاحتلال يملك من التقنيات والإمكانيات المادية في مجال الإعلام ما يجعل محاولة منع انتشاره عربيا مجرد عبث لا فائدة منه. وهذا إلى حد كبير أمر حقيقي لا فائدة من انكاره (اقصد ما يملكه الاحتلال من تقنيات وموارد مادية إعلامية) لكن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال مبررا للتعاطي والتساوق معه ومساعدته من خلال التطبيع الإعلامي، وكذلك لا يعني البتة عدم القدرة للتصدي له وكشف زيف روايته على الرغم من عدم تكافؤ الإمكانيات، فإن كان الاحتلال قادرا من حيث الموارد والتقنيات الإعلامية الضخمة التي تمتلكها ماكنته الإعلامية، إلا إنه أمام ما يحظى به الشعب الفلسطيني بالوعي الجمعي العربي من تعاطف وإيمان بعدالة قضيته تبقى رواية الاحتلال ضعيفة وهشة يمكن دحضها ببساطة لا تحتاج إلا إلى أمرين، أولهما فتح المجال أمام الرواية الفلسطينية الصادقة وعدم شيطنة الفلسطيني، والأمر الآخر عدم إسناد رواية المحتل بالتطبيع الإعلامي مع، مما يتيح له المجال واسعا للمزيد من الكذب والتبرير والانتشار الأوسع وسط الجمهور العربي خاصة في ظل التهافت العربي الرسمي نحو التطبيع مع الكيان المحتل.
الأمر الآخر والذي يكرره ذاك التيار المطبع إعلاميا مع الاحتلال بأنهم ومن خلال تناظرهم الإعلامي مع ضيوف من كيان الاحتلال على الشاشات الإعلامية الناطقة باللغة العربية أنما يناضلون بالكلمة مقابل الكلمة والحجة مقابل الحجة للجم الرواية الصهيونية وعد ترك المجال أمهما دون تصدي أو دحض. وفي حقيقة الأمر هم بذلك لا يخدمون الرواية الفلسطينية والعربية الصادقة والعادلة، بل على العكس يضعونها بمقابل الرواية الصهيونية المزيفة للنقاش والتداول والتفنيد المتبادل، أمام الجمهور العربي والفلسطيني صاحب القضية والرواية الأصلية، وليس أمام جمهور أجنبي قد تمر عليه الرواية الصهيونية بسبب عدم معرفته بالرواية الأصلية مما يتطلب مخاطبتهم بلغاتهم الأجنبية حتى لو تطلب ذلك التناظر مع ضيوف صهاينة على القنوات الأجنبية وذلك بالطبع وفق معايير محددات معينة مثل عدم التناظر مع شخصيات رسمية بالكيان، أما دون ذلك فإنهم يفعلون كالمزارع الذي جاء بالدب إلى كرمه فلم ينل العسل وأفسدت الدبب الكرم.
يبقى ثمة شريحة قليلة جدا، ترى بالتطبيع الإعلامي مع الاحتلال فرصة للتبادل الفكري والثقافي مع كيان “متطور” مما يتيح لمجتمعاتهم التعلم ونقل ات من جانب مجتمع الاحتلال، وهؤلاء في حقيقة الأمر مجموعة من العملاء الذين جندتهم أجهزة الاحتلال الأمنية لهذا الغرض، وجميعهم منبوذين بمجتمعاتهم وعلى كافة المستويات حتى الرسمية منها، ويعيشون بالغالب خارج الدول العربية تحت رعاية تلك الأجهزة الأمنية.
وعليه فإن المطلوب لوقف ومنع هذا النوع من التطبيع الخطير مع الاحتلال، تكاتف جميع الجهود على المستويين النخبوي والشعبي بشتى الوسائل والطرق، وعدم التهاون بذلك الأمر حتى لا يصبح معتادا، وإن كنت طرحت بالسابق إعلان قائمة عار تضم كل هؤلاء المطبعين سواء عرب أو فلسطينيين، إن لم يعتذروا عن ما اقترفوه من تطبيع إعلامي مع المحتل، فإن هذا الأمر غير كافٍ لوقف مثل تلك الخيانة، حيث من المجدي باعتقادي تشكيل لوبي عربي ضاغط من النخب العربية والفلسطينية المناهضة للتطبيع للضغط من أجل سن قوانين تجرم التطبيع مع الاحتلال بكافة أشكاله بما في ذلك التطبيع الإعلامي مع الاحتلال بجميع صوره، كما من المهم والضروري ونحن نتحدث عن التطبيع الإعلامي مطالبة النقابات والاتحادات الصحفية بمقدمتها نقابة الصحفيين الفلسطينيين واتحاد الصحفيين العرب بممارسة دورهم في مناهضة التطبيع الإعلامي مع الاحتلال ووقف تمدده.