أمد/ الهدف من البحث
يسعى هذا البحث إلى تفكيك منطق التعاطي العربي ولا سيما لدى دول الوساطة مع قرار وقف إطلاق النار في غزة، عبر فهم الدوافع والعلل الكامنة وراء القبول بتطبيقٍ مختلّ وغير عادل للقرار. إذ بدا هذا التطبيق، في صورته العملية، أقرب إلى تنفيذٍ أحاديّ الجانب، وكأنّ إسرائيل قد وقّعت الاتفاق بوصفها الطرف المنتصر في الحرب. غير أنّ هذا التصوّر يصطدم بحقيقةٍ أساسية في تعريف الحسم داخل الحروب غير المتكافئة؛ حيث تُظهر معاييرها السياسية والاستراتيجية والرمزية، بما لا يدع مجالًا للشك، أنّ إسرائيل هي الطرف الذي مُني بالخسارة، وأنّ إدارة الخطاب حول “وقف النار” لم تكن سوى محاولة لإعادة إنتاج وهم الانتصار بعد سقوطه ميدانيًا وأخلاقيًا، وترميم أسطورة القوّة المزعومة بأنّ إسرائيل هي “الجيش الذي لا يُقهر”.

المقدمة
لم تعد الهزيمة في السياقات السياسية المعاصرة حدثًا عسكريًا صرفًا، بل تحولت إلى أزمة خطابية تتعلق بكيفية إنتاج المعنى وضبط السرد السياسي. فالسلطة لا تُهدَّد بالهزيمة ذاتها بقدر ما تُهدَّد بخروجها من السيطرة التأويلية (فوكو، 1980). في هذا السياق، يُبرِزُ خطابُ بنيامين نتنياهو نموذجًا متقدمًا لإدارة الهزيمة عبر ما يمكن تسميته «فلسفة إعادة إنتاج النار»، أي تحويل الخسارة والتعثر إلى طاقة رمزية تُعيد إنتاج الشرعية وتحمي السردية المؤسِسة للكيان (الشريف،٢٠٢٥).
في المقابل، تتعامل الأنظمة العربية السلطوية مع الهزيمة بوصفها تهديدًا مباشرًا لبقاء النظام، لا للسردية أو الأسطورة، ما يؤدي إلى نمط مختلف جذريًا من إدارة الخسارة (غليون، 1990).

الهزيمة بوصفها أزمة سردية
تنطلق هذه الدراسة من فرضية أن السلطة الحديثة تُمارَس بقدر كبير عبر الخطاب، أي عبر التحكم في ما يمكن قوله، وكيف يمكن تفسيره (فوكو، 1972). ومن هذا المنظور، تصبح الهزيمة خطرًا مزدوجًا:
خطرًا ماديًا يكشف حدود القوة ، وخطرًا رمزيًا يهدد مشروعية السرد السياسي المبني على الأسطورة (الشريف،٢٠٢٥).
ووفق تصور رولان بارت، تعمل الأسطورة السياسية على تحويل الحدث التاريخي إلى حالة طبيعية، بما يؤدي إلى تحييد طابعه النقدي (بارت، 1972). وعليه، فإن إدارة الهزيمة لا تعني إنكارها، بل إعادة إدماجها داخل نسق تفسيري أعلى يمنع تحولها إلى سؤالٍ سياسيّ مفتوح.

فلسفةُ إعادَةِ إنتاج النار: تحديد المفهوم
تشير «إعادة إنتاج النار» (حسب الباحث: محمد عزت الشريف) إلى استراتيجية خطابية تقوم على إبقاء الصراع مشتعلاً رمزيًا حتى في لحظات التراجع الواقعي. فالنار هنا ليست عنفًا ماديًا فحسب، بل رمز للخطر الدائم وأداة للتعبئة السياسية.
تتلاقى هذه الآلية مع ما يسميه المفكر العربي إدوارد سعيد «استمرارية السرد مع الإمبريالي»، حيث لا يُسمح للانكسار بأن يُقرأ بوصفه نهاية، بل بوصفه مرحلة ضرورية ضمن مسار تاريخي أطول. وبذلك، تتحول الهزيمة من لحظة مراجعة إلى ذريعة للاستمرار.

نتنياهو وإدارة الهزيمة في الخطاب الإسرائيلي
يكشف تحليل خطاب نتنياهو عن بنية خطابية تتسم بعدة خصائص:
أولًا، إعادة توصيف الهزيمة بوصفها جولة ضمن صراع ممتد، لا فشلًا نهائيًا، وهو ما ينسجم مع آليات الخطاب الاستعماري الكلاسيكي (سعيد، 1993).
ثانيًا، أخلاقنة الصراع، حيث تُعاد صياغة الخسارة ضمن ثنائية الخير/الشر، ما يؤدي إلى نقل النقاش من مستوى النتائج السياسية إلى مستوى القيم الوجودية حسل المفكر الفلسطيني عزمي بشارة ( 2017).
ثالثًا، تغليب السرد على الواقع، إذ تصبح حماية صورة الدولة ورمزيتها أهم من مساءلة الأداء السياسي أو العسكري، وهو ما يحوّل الخطاب إلى أداة لإنتاج الهيبة لا لمساءلتها (بارت، 1972).
رابعًا، إدامة حالة الاستثناء، حيث يُستخدم استمرار التهديد لتبرير تعليق المحاسبة السياسية، بما ينسجم مع تصور كارل شميت لحالة الطوارئ بوصفها أساسًا للشرعية السلطوية (2005).

الخطاب الاستعماري وإدارة الخسارة
تُدرج فلسفة إعادة إنتاج النار ضمن تقاليد الخطاب الاستعماري الذي لا يقوم على الانتصار الدائم، بل على القدرة على إدارة التراجع دون انهيار السردية. فالاستعمار، وفق سعيد، يعيش على الحكاية بقدر ما يعيش على القوة (سعيد، 1993).
كما يوضح عبد الله الغذامي أن الخطاب المهيمن يعمل عبر أنساق مضمرة، تجعل بعض الأسئلة غير قابلة للطرح أصلًا (2000). وفي هذا الإطار، تُحوَّل الهزيمة إلى معنى “مؤجل” لا يُسمح له بالاكتمال.

الخطاب السلطوي العربي: الهزيمة كتهديد للنظام
على النقيض من ذلك، لا يمتلك الخطاب السلطوي العربي سردية كبرى قادرة على امتصاص الهزيمة. فبحسب محمد عابد الجابري، يعاني العقل السياسي العربي من أزمة في إنتاج الشرعية خارج منطق القوة المباشرة ( 1990).
وعليه، تُدار الهزيمة عبر:
تعليقها على عوامل خارجية أو مؤامرات (غليون، 1990)
أو تحويلها إلى ذريعة لتكثيف القمع الداخلي (الحاج صالح، 2017)
في هذا السياق، تغيب الهيمنة الثقافية بالمعنى الغرامشي، ويحل محلها القسر العاري (غرامشي، 1971).

مقارنة تحليلية
يتضح أن الفرق بين النموذجين لا يكمن في وجود الهزيمة، بل في وظيفتها داخل الخطاب:
في الخطاب الاستعماري، تُستثمر الهزيمة لإعادة إنتاج المعنى والأسطورة (سعيد، بارت).
في الخطاب السلطوي العربي، تُدار الهزيمة بوصفها خطرًا أمنيًا يجب احتواؤه، لا حدثًا سياسيًا يجب تفسيره (غليون).

الخاتمة
تخلص الدراسة إلى أن الهزيمة، في الخطاب السياسي المعاصر، ليست نهاية بقدر ما هي اختبار لقدرة السلطة على التحكم في السرد.
ففي حالة نتنياهو، تتحول الهزيمة إلى «نار» رمزية تُعاد إنتاجها لحماية الأسطورة الاستعمارية (الجيش الذي لا يُقٔهَر). أما في الحالة العربية السلطوية، فتتحول الهزيمة إلى فراغ معنوي يُملأ بالقمع و الترهيب بدل السرد والتبرير.
وبذلك نؤكد في هذه الدراسة أن اللغة ليست مُلحَقًا للصراع، بل أحد ميادينه الأساسية، وأن أخطر ما في الهزيمة ليس وقوعها، بل خروجها من السيطرة الخطابية ومن ثم تَفَكُّك أّسطورة المَنَعَةِ والقوة المزعومة.

شاركها.