مُنتجو العسل في تونس يتجرعون مرارة تأثير التغيرات المُناخيّة اليوم 24
تنقسم تربية النّحل إلى قطاعين، قطاع « تقليدي » في « أجباح »، ينتشر في أغلب أرياف تونس؛ في الجبال والغابات. وبسبب تقنياته القديمة، وضعف الرعاية الطبية، إلى جانب ضعف الإنتاجية السّنويّة، تذبذبت أعداد الخلايا؛ فتارة تتراجع، وتارة أخرى تزداد بنسب ضئيلة، خلال الفترة من 2014 إلى 2023.
والثاني القطاع « العصري » الذي يمتاز بسهولة التعامل معه، وهو خاضع للترحيل، يوجد في بيوت خشبيّة، لكنّه يتطلّب تمويلات باهضة. وقد اتّسم بتذبذب أعداد القطيع بسبب عدة عوامل، خلال الفترة من 2014 إلى 2023.
تتركّز تربية النّحل بالأساس في الشّمال الغربي بمحافظة بنزرت في غابات « الكلاتوس » بسجنان. كما تتركز أيضاً في الشّمال الشرقي بمحافظة نابل في مزارع التّوابل وغراسات القوارص، ومحافظة زغوان في غابات الزّعتر، وفي الوسط التّونسي في ولاية القصرين بغابات إكليل الجبل، وفي الوسلاتيّة بمحافظة القيروان.
سجّلت نسب إنتاج العسل في تونس تراجعاً إجمالياً خلال السّنوات الأخيرة، بلغ 15 في المئة، فبعد أن كان إجمالي الإنتاج ألفين و500 طن سنة 2020، بلغ نحو ألفين و135 طناً سنة 2023. واجه مربّو النّحل خلال هذه الفترة عدة صعوبات، خاصّة في ترحيل الخلايا وترويج منتجاتهم؛ ما دفع مربّين كثر إلى التركيز على إنتاج فروخ النّحل عوضاً عن إنتاج العسل.
بحرقة تقص نورة الطرابلسي فقدانها الكثير من النّحل، مثلها مثل غيرها من المربين: « الناس جميعاً يعانون من فقدان النّحل، فعندما لا تجد النّحلة المرعى، ولا مصدر إطعام صغارها، تقتلهم وتغادر… أضعت الكثير من النّحل السنة الماضية في حقول الزّعتر بسبب ارتفاع درجات الحرارة، مات الكثير منها ».
تواصل نورة الطّرابلسي حديثها عن خصائص العسل التّونسي، الذي تتعب من أجل تحصيله؛ لكنّها في المقابل لا تجد مسلكاً لتوزيعه.
ويتأثّر النّحل بالمناخ المحيط به؛ فواقع سلوك النّحل داخل الخليّة وخارجها مرتبط بالعناصر المناخيّة، فضلا عن تأثير عناصر المناخ في العمليّات الحيويّة للنّبات، كالتمثيل الضوئي والامتصاص والنّمو والإزهار.
كواحدة من دول منطقة البحر الأبيض المتوسّط، التي تعدّ من أكثر المناطق عرضة للتغيّرات المناخيّة؛ واجهت تونس جملة من الظّواهر الطّبيعيّة غير المألوفة، منها انخفاض كميات الأمطار. وبحسب تقرير المناخ والتنمية الخاص بتونس، الذي أعدّه البنك الدولي، فإن تأثير هذه التغيرات بدأ فعلياً يتجلى، من خلال الخسائر التي مُني بها القطاع الفلاحيّ بعد سنوات عجاف، اتسمت بقسوة الجفاف وانخفاض كبير في الإنتاج، خلال الفترة الممتدة من 2022 إلى 2023.
وأقرّ المرصد الوطني للفلاحة في تقريره الصادر في كانون الثاني/يناير 2024، أن العجز في كميات الأمطار المُسجّلة خلال الفترة من شتنبر 2023 إلى يناير 2024، تراوحت بين 19 في المئة و58 في المئة؛ ما أثر في المخزون المائي للسدود، بعد فقدانها نحو 45 في المئة من مخزونها منذ عام 2019 إلى بداية عام 2022.
يقول الخبير في تربية النّحل، عباس الزرلّي، إن خلايا النّحل عانت كثيراً نتيجة ارتفاع درجات الحرارة؛ إذ وصلت حدود 45 درجة مئوية، وأدّى الجفاف إلى تأثر حبوب اللقاح، وتغير سلوك النّحل، فأصبح يقضي وقتاً أطول في جمع الماء لتبريد الخلايا، بدلاً من جمع الرّحيق لتغذية اليرقات والخليّة، ما يتسبّب حسب قوله في نقص الإنتاج بنسبة 20 إلى 30 في المئة.
ووفقاً لبحث قُدّم في المؤتمر التاسع لاتحاد النّحالين العرب بدمشق عام 2016، فإن درجات الحرارة المرتفعة تؤثر مباشرة في نشاط النّحل، الذي يعمل للحفاظ على درجة حرارة مستقرّة داخل الخلية بين 35° و37°، لضمان التبييض ونمو اليرقات. وعند تجاوز حرارة الطقس 38 درجة، فإن النّحل نادراً ما يَسْرح في الحقل، إلا لجمع الماء.
يؤكد رشاد الخمير، أحد مربّي النّحل من محافظة نابل، تراجع محصول الخليّة الواحدة تحت تأثير ارتفاع درجات الحرارة؛ ما اضطرهم إلى إنقاص حجم الصندوق الخشبيّ المُستخدم، لأن المناخ غير مناسب والرحيق غير متوفّر؛ وهي طريقة لتيسير عمل النّحلة وعدم إجهادها، وفق قوله.
سجّلت مدينة بنزرت أرقاماً قياسية في درجات الحرارة، بلغت في شهر آب/أغسطس عام 2021 نحو 48.9 درجة مئوية، كما سجّلت 48.6 في شهر تموز/يوليو 2023؛ ما يفسر تراجع إنتاج العسل بالولاية، بنسبة بلغت نحو 59 في المئة، خلال الفترة من عام 2018 إلى 2022.
إنتاج العسل في محافظة بنزرت 20182022
يرى الخبير في تربية النّحل، عباس الزرلّي، أن الغابات هي المكان الطبيعي لتربية النّحل، ولكن لم يتبقَ منها شيء، وفق تعبيره، خاصة في السنوات العشر الأخيرة؛ بسبب الحرائق التي أدت في النهاية إلى نقص الإنتاج.
في المقابل، تراجعت المساحات الغابيّة في تونس بسبب الحرائق، حيث فقدت تونس نحو 25807,624 هكتاراً من الغابات عام 2021، كأكبر حصيلة منذ عام 2002، وبنسبة زيادة قدّرت بألفين و308 في المئة.
وتعدّ محافظة بنزرت قبلة لمربّي النّحل؛ يتجهون إليها طمعاً فيما توفّره غابات « الكالاتوس » من غذاء النّحل بمدينة سجنان، التي تصدّرت إنتاج العسل بـ 32 طنّاً عام 2022، غير أنها تعرضت لحرائق متكرّرة، ما جعلها تحتل المرتبة الأولى على مستوى المحافظة في المساحات الغابيّة المحترقة؛ حيث سجّلت بين عامي 2001 و2023 أكبر خسارة في الغطاء الشجريّ بمساحة 5.92 ألف هكتار.
وقد أثر انتشار المبيدات والأدوية الفلاحيّة في قطعان النّحل ومنتجاته؛ بسبب تسرّب المبيدات الزراعية إلى داخل الخلايا، إما عن طريق الرياح أو أثناء جمع النّحل لرحيق ملوّث؛ فيُصاب النّحل بالتسمّم ويموت قبل عودته إلى الخليّة. وقد ينجح في نقل الرّحيق الملوّث وتخزينه في الخليّة؛ ما يؤدّي إلى تلوّث واسع النطاق.
يصف رشاد الخمير، أحد مربّي النّحل في محافظة نابل، طريقة الري المعاصرة، أو ما يعرف بالرّي بالتنقيط، « بالكارثة والمصيبة »؛ لأنها سبب مباشر في نفوق الكثير من النّحل لما تنقله من ماء ملوّث بالأدوية والمبيدات الفلاحية، على حدّ تعبيره.
ويضيف أن النّحل يحتاج إلى مياه كثيرة طوال اليوم، ونظراً لحالات الجفاف فقد قلّت مياه الأنهار والمستنقعات؛ لذلك يتوجه النحل إلى أنابيب المياه المُذاب بها المبيدات والأدوية الفلاحيّة، التي يستخدمها الفلاّح في ري مزروعاته، وبالتالي تموت النّحلة مباشرة بمجرّد شربها الماء الملوّث.
محافظة بنزرت ليست وحدها التي عانت ولا تزال من وطأة التغيّرات المناخيّة؛ إذ تتكدّس خلايا النّحل في فصل التّوابل بمحافظة نابل، ويدخل المنطقة أكثر من عشرين ألف بيت عصريّ؛ نظراً لما توفّره المحافظة من نباتات رعويّة على غرار غراسات القوارص والكروم، ومساحات التّوابل، والمناطق الغابيّة التي تمثّل مصدراً مهماً لتربية النّحل.
غير أنّ ارتفاع درجات الحرارة وزيادة البرودة، تسبّبتا منذ عقدين تقريباً، في انخفاض معدّل إنتاج العسل للبيت العصريّ بين خمسة إلى ستة كيلوغرامات للخليّة الواحدة عام 2023.
تسبّبت التغيّرات المناخيّة، وفق المهندس الزّراعيّ عبّاس الزرلّي، في تكاثر الأمراض والطفيليّات والآفات، مثل قراد النّحل (varroa). وقد أشار التّقرير السّنوي للمندوبية الجهويّة للتنمية الفلاحيّة بنابل إلى أنّ غياب الأدوية المضادة لمرض « القراد » دفع بالمربين إلى استعمال مبيدات فلاحيّة ضارة بخلايا النّحل، كما أنّ زراعة البذور المُحوَّرة جينيّاً في بعض الحقول أدت إلى إضعاف جهاز المناعة لدى النّحل الذي يرعى أزهارها.
وكان المهندس الأول بديوان تربية الماشية وتوفير المرعى، حسّان بن سالم، قد لفت في تصريح إعلامي في ماي 2024 إلى أن تدهور الإمكانيّات الوراثيّة لسلالة النّحل التّونسية من بين أهم عوامل تراجع معدلات إنتاج العسل في البلاد.
يُمثّل قطاع تربية النّحل أهمّية بالغة في النّظم البيئيّة؛ فوفق منظمة الأغذية العالمية تعتمد 90 في المئة من النباتات المزهرة، وأكثر من 75 في المئة من المحاصيل الغذائيّة، على عمليات التلقيح التي لا غنى عنها، ويقوم بها النّحل وغيره من الملقّحات.
جودة عالية وارتفاع في الأسعار
يلفت عضو الجامعة الوطنيّة لمربّي النّحل مراد الشّمّاخي، في تصريح للإذاعة الوطنيّة، إلى أنّ تكلفة الكيلوغرام الواحد من العسل وصلت نحو مئة دينار، ما أدى إلى ارتفاع سعره للمستهلك.
الجدير بالذكر أنّ الدولة تستورد كميات كبيرة من العسل من عدة دول، تتصدّرها مصر، ثمّ فرنسا وإسبانيا. وقد بلغت تكلفة الاستيراد أكثر من ثلاثة ملايين دينار عام 2023، وبزيادة قدرها 32 في المئة مقارنة بعام 2022.