موائد الإفطار الجماعي.. ” فيها وعليها”
يقال في الأثر “إذا زاد الشيء عن حده انقلب إلى ضده”، قد يتم إسقاط هذا المثل الشعبي على “ظاهرة” اجتماعية باتت في اتساع رهيب من موسم رمضاني إلى آخر، ويتعلق الأمر بموائد الإفطار التي يقال أو يتم الادعاء بأنها من تنظيم البلدية الفلانية أو البلدية العلانية.
ولأن التسابق والتباهي بتنظيم “أكبر وأفخم” إفطار جماعي بين مسؤولي البلديات يكاد يخرج عن سياقه الاجتماعي التضامني في أيام شهر الرحمة والغفران، ارتأت “” تسليط الضوء على هذه الظاهرة ووضعها تحت المجهر، في محاولة لفهم الخلفيات والتوجه بالموضوع في اتجاه إبقاء العملية التضامنية الأصيلة هذه في سياقها النبيل والابتعاد عن الرياء والتباهي والتنافس الذي لا يفيد المجتمع.
بالعودة إلى موضوع موائد الإفطار، كان يجب الإشارة والتذكير أن الإفطار الجماعي في أيام شهر رمضان أصبح “موضة” في بلادنا، مستوردة على وجه الخصوص من تركيا، حيث “ازدهرت” في عهد رجب طيب أردوغان عندما كان عمدة لبلدية اسطنبول. (سنعود إلى هذه الجزئية لاحقا).
الأصل في موائد الإفطار الجماعي، في الحقيقة، أنها ليست غريبة على المجتمع الجزائري. فهذه الموائد كانت تقام قديما في الأحياء والتجمعات السكنية وبعض القرى، أساسها أن تأتي كل أسرة بطعامها وتجتهد في تحضير وجباته سيدة البيت، ثم تلتقي الأسر فيما بينها (عدم الاختلاط) ويتم تبادل الوجبات، فيأكل هذا من طعام ذاك. أما المغزى والهدف النبيل من هذه العملية فهو أن يجمع بين الناس رابط “الملح”، فيصبح في حكم “المحرم” على هذا الاعتداء على ذلك، لأنه “أكل ملحه”، لأنه صار، كما يقال بينهم “عيش وملح”، ومادام بين ناس الحي أو القرية “ملح” فإن الأمن والأمان والطمأنينة والسلام هي من تسود، وتبتعد بالتالي الأضغان والحقد والنميمة والاعتداءات وغيرها من السلوكيات المشينة التي غزت مجتمعنا الآن.
أما حديثنا عن أصل موائد الإفطار الجماعي في المجتمع الجزائري، فذاك للتأكيد أن هذه الموائد إذا كانت من غير مغزى وهدف أو أهداف اجتماعية، فماهي حاجتنا إليها؟
فمع تفصيل ومحاولة الإجابة على هذا التساؤل، وبالعودة إلى ما سبق وذكرناه من كون موائد الإفطار الجماعي موضة ازدهرت مع الرئيس التركي، عندما كان عمدة على بلدية اسطنبول، نذكر أن الأخيرة بالتنسيق مع جمعيات خيرية كانت تنظم موائد إفطار جماعي “موضوعاتي (Thematique)، كأن يتم دعوة عمال النظافة في مدينة اسطنبول لمأدبة إفطار مميزة ويحضرها عمدة البلدية (أردوغان) وشخصيات سياسية ودينية وعلمية وثقافية، على أن يجلس هؤلاء مع البسطاء جنبا إلى جنب بعيدا عن كل البروتوكولات، وفي هذه “اللمة” مثلا مغزى ورسائل اجتماعية قوية أراد منظمو الحدث إيصالها، وفي هذه الحالة يكون للإفطار الجماعي مبرر.
وفي تركيا دائما وإسطنبول على وجه الخصوص، ازدهرت موائد الإفطار الجماعي، لاسيما في المساحات القريبة من معالم سياحية غنية عن التعريف كالمسجد الأزرق وآية صوفيا وقصر توب كابي (الباب العالي)، لكن هذه الموائد أيضا موضوعاتية وتستهدف فئة السياح الأجانب من المسلمين ومن غير المسلمين، والأكيد أن لمنظمي هذا “حدث” أهدافا يريدون الوصول إليها وايصالها أيضا.
ويؤكد العديد من المتابعين والدارسين للسلوكيات والمظاهر والظواهر الاجتماعية أن الإفطار الجماعي في كل الدول الإسلامية على وجه الخصوص (ماليزيا وإندونيسيا وبعض دول الخليج) عادة ما يستهدف فئة من فئات المجتمع، مثلما حدث في الجزائر قبل ثلاثة أيام عندما احتضن ملعب 1 نوفمبر بتيزي وزو أكثر من 4000 مدعو لإفطار جماعي على شرف الأرامل والأيتام. والمناسبة كانت تستهدف تحسيس الضيوف، لاسيما من أصحاب المال والأعمال والسلطات أيضا، بضرورة الاهتمام بهذه الفئة من المجتمع، كما انتظمت على شرف المسنين وطلبة جامعيين أجانب مأدبات إفطار، وفي هذه الحالة فإن الأمر عادي بل مستحب، مثلما يؤكد عليه علماء الاجتماع وعلماء الدين، أما أن يكون تنظيم هذا “الحدث” من البلديات دون تحديد الهدف والمغزى فهذا لا من صلاحياتها ولا مهامها.
جزئية أخرى تخص الإفطار الجماعي الذي يكون موضوعاتيا وله مغزى وهدف، ويتعلق الأمر بمأدبات إفطار تنظمها في أيام شهر رمضان الشركات والمؤسسات ووزارات وهيئات عمومية وسفارات. ويعد تنظيم هذا الحدث من صميم مهام وصلاحيات مصالح العلاقات العامة للهيئات المستضيفة التي تدعو شركاءها ومتعامليها وإطاراتها لحضور المأدبة، مع التأكيد أن لذلك هدفا ومغزى.
المتتبعون لهذا الموضوع، لاسيما من فعاليات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية الفعّالة، يؤكدون أن موائد الإطار الجماعي التي تنظمها البلديات، ورغم مزاعم “الأميار” أن هذا الحدث غالبا ما تتكفل بنفقاته شركات ومؤسسات ومتعاملون في إطار السبونسور، إلا أن كل تجارب موائد إفطار البلديات أثبتت “فراغها” من المحتوى، عدا “البهرجة” في يوم “الحدث”.
وفي سياق الحديث عن فشل هذه المبادرات التي تنظمها البلديات، تحدثت مصادرنا عن أمور “غير نظيفة” ترافق هذه العملية، والبداية عن اختيار الشركات والمؤسسات الراعية المساهمة بالمواد أو بالأموال، مرورا بتكاليف كراء الطاولات والكراسي والخيم وعتاد التصوير العالي الدقة (درون)، إلى عمليات السرقة والسطو التي تتم في يوم الحدث من قبل المؤطرين والمشرفين والمسؤولين على اختلاف درجات مسؤولياتهم.
الذين يتحفظون على تنظيم البلديات (الجماعات المحلية) لموائد إفطار جماعي يقترحون على “الأميار” مثلا أن يتم توجيه نداء للشركات والمؤسسات التي ترعى أو تجبر على رعاية هذا “الوعد” لتتبرع هذه الأخيرة للمطاعم المدرسية حتى يستفيد أبناؤنا من نوعية جيدة للوجبات المدرسية.
تجدر الإشارة إلى أننا حاولنا الاتصال برئيس بلدية سيدي امحمد بالعاصمة، كون هذه البلدية نظمت الأسبوع الماضي إفطارا جماعيا، وتركنا له رسالة نصية والأسئلة حول محور هذا الملف، غير أن المعني لم يتفاعل.