أمد/ سخرية الكاتب ورسالة الوعي:
في الماضي، كتب فرانسوا رابليه قصة خراف بانورج بأسلوب ساخر، ليسلط الضوء على خطر الغريزة الجماعية للقطيع في مجتمع غاب عنه الوعي. في هذه الحكاية، قفزت الخراف الواحدة تلو الأخرى إلى البحر، متأثرة بغريزتها الجماعية، بينما كان التاجر دندونو يراقب بحساب دقيق، مستفيدًا من الموقف لتحقيق مكسبه وانتقامه من بانورج.
لم يكن الغرض من هذه السخرية مجرد تسلية القارئ، بل إيصال رسالة قوية ودون مجازفة الكاتب بمخاطر النقد الصريح: أن الإنسان بلا وعي نقدي يُقاد بسهولة، وأن الانسياق وراء الآخرين بلا تفكير قد يؤدي إلى نتائج كارثية. ومن أدرك قصد الكاتب وفهم رمزية القصة، بلغ الوعي الحقيقي، مدركًا أن العقل المستقل والمستنير بالمراجعة النقدية هو السبيل لتجنب السقوط في فخ الانسياق الجماعي.
##لابوبو القطيع الرقمي واستمرار الدرس القديم:
مع مرور الزمن، لم يختفِ درس خراف بانورج، بل وجد تجسيدًا جديدًا في هذا العصر الرقمي من خلال شخصية لابوبو، دمية القطيع. هذه الدمية، رغم بساطة تكلفتها، تُباع بأسعار باهظة في بعض المناطق، ما يمثل استغلالًا تجاريًا وتسويقيًا يستهدف الجماهير المتأثرة بالترندات والإعلانات بشكل أعمى، لتتحرك وفق المحفزات الاقتصادية والإعلامية أكثر من كونها قرارات عقلانية.
تمامًا كما دفع التاجر خراف بانورج للغرق بلا وعي، تتحرك دمية لابوبو القطيع الرقمي اليوم وفق أجندات منشئيها، الذين يسعون لاستغلال الانسياق الجماعي لتحقيق مكاسب أو أهداف محددة. وهكذا، يبقى الدرس الرمزي نفسه: سواء في الأدب القديم أو في الواقع الرقمي الحديث، غياب التفكير النقدي والانصياع خلف رغبات الآخرين يمكن استغلاله لتحقيق مصالح المستفيد.
##الفارق بين الماضي والحاضر ونطاق التأثير:
يكمن الفارق الجوهري بين قصة خراف بانورج ولابوبو القطيع الرقمي اليوم في امتداد نطاق التأثير وانتشاره الإعلامي. ففي القصة القديمة، كانت الخراف تغرق في البحر، لكن الحدث محصور داخل إطار الحكاية. أما اليوم، فالكارثة تكمن في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تنقل المشهد إلى الجميع، فتتحول الجماهير كلها إلى “خراف على السفينة”، تشاهد وتتأثر وربما تنقاد بلا وعي.
في هذا السياق، تتحول الأحداث الرمزية إلى ترندات وهاشتاغات تنتشر بسرعة، وتصبح الجماهير معرضة للتبعية بلا وعي، كما يحدث مع لابوبو القطيع، ما يضاعف تأثير الانقياد الجماعي ويجعل التحكم فيه أسهل وأكثر خطورة على نطاق واسع.
تأثير موجه على مختلف المجالات
لا يقتصر تأثير لابوبو القطيع الرقمي على مجال واحد، بل يمتد ليشمل جميع أبعاد الحياة المعاصرة:
*الاقتصاد والمجتمع: تقود الهرولة وراء الترندات إلى تبني عادات استهلاكية مبالغ فيها بلا حاجة حقيقية، لمجرد التقليد والمفاخرة فقط.
*السياسة والإعلام: يتبع الناس الإشاعات الموجهة والبهرجات والبروباغندا الإعلامية دون تحقق، ما يجعلهم أدوات لترويج أجندات شخصية أو جماعية، متاثرين ومؤثرين على الرأي العام بلا وعي.
*الصحة والطب: تتجلى التبعية والتقليد وراء عمليات التجميل أو أنظمة التنحيف المضرة أحيانًا كيف يمكن للترند أن يؤثر حتى على القرارات الصحية، مستغلًا رغبة الأفراد في الوصول إلى “المثالية” الزائفة.
*التعليم والتعلم: يقلد الطلاب زملاءهم أو أساليب تعليمية شائعة دون تقييم عقلاني، مما قد يضعف جودة التعلم ويحد من التفكير النقدي.
*البيئة والاستدامة: يظهر الانسياق وراء عادات استهلاكية ضارة بالبيئة مدى تأثير القطيع على الموارد الطبيعية والمجتمع ككل.
*التكنولوجيا والثقافة الرقمية: يتبع الناس التطبيقات أو الترندات الرقمية ويعيدون إنتاجها، ما يعكس استغلال المنصات للجماهير لتحقيق مكاسب مالية أو تعزيز شعبية معينة.
ومن ذكاء منشئي هذه التوجهات تحديد الجمهور المستهدف بدقة. وكما بدت، دمية لابوبو تستهدف الأطفال وغريزة اللعب لديهم، وحيث تتنوع طرق الاستهداف والبيئة المستهدفة. هنا يظهر دور الدول، والحكومات، والمؤسسات، والمثقفين، والأسرة في وضع سياسات وبرامج تثقيفية تحمي الفئات الأكثر هشاشة، وتساهم في رفع مستوى الوعي الجماهيري وضبط الغرائز لمنع الانجراف وراء هذه التوجهات غير المدروسة.
##الخاتمة:
الوعي هو الحصن:
من خراف بانورج إلى دمية لابوبو، تبقى الرسالة واحدة: المجتمع الواعي والعقل المستقل والتفكير النقدي هما الحصن ضد الانجرار وراء الغريزة الجماعية. سواء في الأدب أو في العصر الرقمي، يبقى الوعي الفردي هو ما يميز من يفهم الرمزية ويبلغ الإدراك، عن من ينجرف بلا تفكير وراء أي موجة أو ترند، مسخرًا إياه لتحقيق مصالح الآخرين على حسابه.