من القلب إلى القلب قبل رمضان
أخرج الإمام الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة”.
أيام معدودات ويقبل علينا الضيف العزيز بأنفاسه العطرة، وثغره الباسم، ووجهه المشرق، يقبل بنفحاته وهباته، يقبل وهو ينادي: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، يقبل محذرا: رغم أنف من دخلت عليه ثم انسلخت قبل أن يغفر له، يقبل فتفتح بإقباله أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، يقبل والمسلم متشوق إلى صيام نهاره وقيام ليله، فيا له من شهر عظيم، وموسم كريم، وتجارة رابحة لن تبور.
فيا أيها المقصر، هذا الشهر فرصه لا تعوض للتوبة والإنابة والرجوع إلى الله، فإذا جاء رمضان ولم تتب فمتى تتوب؟ وإذا أقبل شهر الصيام ولم تعد فمتى تعود؟ احذر أيها الفاضل أن تكون من الذين يكرهون رمضان، لأنه يمنعهم من شهواتهم، فإن هؤلاء لا حظ لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش. قل لي بربك: كيف تكره رمضان وفيه تغفر ذنوبك، وكيف تكره رمضان وفيه تقال عثراتك؟
في لطائف المعارف لابن رجب: ولربما ظن بعض الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل، لتأخذ النفوس حظها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام، ولهذا يقولون: هي أيام توديع الأكل، وهذا كله خطأ وجهل ممن ظنه، وربما لم يقتصر كثير منهم على اغتنام الشهوات المباحة، بل يتعدى إلى المحرمات، وهذا هو الخسران المبين، وأنشد بعضهم في هذا:
إذا العشرون من شعبان ولت فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار فإن الوقت ضاق على الصغار
إن من كانت هذه حاله، فالبهائم العجماوات أعقل منه، إن الكثير للأسف لا يصلي إلا في رمضان، فيطول عليه، ويشق على نفسه مفارقتها لمألوفها، فهو يعد الأيام و الليالي ليعود إلى المعصية، وهؤلاء في الحقيقة مصرون على ما فعلوا وهم يعلمون فهم هلكى، ومنهم من لا يصبر على المعاصي، فهو يواقعها في رمضان والعياذ بالله.
ترى أين نحن من حال قوم كان دهرهم كله رمضان! ليلهم قيام، ونهارهم صيام، ورد أن قوما اشتروا جارية فلما قرب شهر رمضان، رأتهم يتأهبون له ويستعدون له بالأطعمة وغيرها، فسألتهم فقالوا: نتهيأ لصيام رمضان، فقالت: وهل أنتم لا تصومون إلا رمضان؟ لقد كنت عند قوم زمانهم كله رمضان، ردوني إليهم. وباع الحسن بن صالح جارية له فلما انتصف الليل قامت فنادتهم: الصلاة الصلاة، قالوا: وهل طلع الفجر؟ قالت: وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة؟ ثم جاءت الحسن فقالت: بعتني إلى قوم سوء، لا يصلون إلا المكتوبة؟ ردني، ردني.
أحبتي في الله: بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه، وكيف لا يكون ذلك وقد جعل الله أجر الصيام بغير حساب، ففي الحديث القدسي: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي و أنا أجزي به”.
فمن رُحم في شهر الصوم فهو مرحوم، ومن حرم خيره فهو محروم، ومن لم يتزود فيه لمعاده فهو ملوم، فهنيئا لكم أيها الصائمون الأجر والعتق من النيران: “ولله عتقاء من النار في كل ليلة”، وهنيئا لكم استجابة دعواتكم: “إن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة”.
أما أنت أيها المحروم، فما أردأ رأيك، وما أخسر صفقتك، أتبيع التمر بالبعر وتزعم أنك عاقل؟ أتطيع الشيطان وتعصي الرحمن وتتبجح بأنك فهمان؟ أتترك جنة عرضها السماوات والأرض لأجل جيفة قذرة، وتعد نفسك فطنا! فيا من طالت غيبته عن ربه قد قربت أيام المصالحة، فمن لم يربح في هذا الشهر فمتى يربح؟ ومن لم يقرب فيه من مولاه، فهو على بعده لا يبرح.
* إمام وأستاذ بكلية العلوم الإسلامية جامعة الجزائر 1